أحيانًا أتساءل ما هي الدوافع الإنسانية التي تجعلنا نحن البشر نحرص على تخليد ذكرانا، ذلك الخلود الذي كان غواية آدم الأولى عندما وسوس له الشيطان: "قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ".
ما الذي كان يطمع فيه آدم من مُلكٍ وخلود أكثر من كونه يسكن الجنة وسجدت له الملائكة؟ لكن كنتُ أجد الإجابة في قول الله تعالى: "إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا".
هذا الجهل الذي دفع غرور الإنسان إلى تقبل الأمانة.. الأمانة التي هي حق الله على عباده، وما شرعه لهم من توحيد والإخلاص لهُ، وسائر ما أوجب الله به، ويجب أن يؤدوا هذه الأمانة على الوجه المشروع، وكانت السماء والجبال على علم بثقل هذه الأمانة نتيجة وجودهما على الأرض قبل خلق الإنسان.
كانت السماء والجبال أكثر ذكاء من الإنسان، جاءت هذه الحكمة نتيجة ما شاهدوه مُسبقًا من أفعال الجن على الأرض والأمانة التي لم يحسنوا صونها. فإن هذه الأمانة لا يساويها شيء، بل هي الأمانة العظمى وهي دين الله؛ ولهذا عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها؛ لعظم شأنها، فالواجب على المكلف من بني آدم أن يعتني بها وأن يؤديها كاملة على وجه الإخلاص لله في فعل الواجبات وفي ترك المحارم، يرجو ثواب الله ويخشى عقاب الله.
لم يكن هذا مُخالفا لمشيئة الله، إنّما جاءت هذه الأحداث وفقًا للسيناريو الرباني الذي وضعه الله عز وجل في قوله تعالى: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ".
لم تكن أيضًا الملائكة على علم بالغيب وما سيفعله الإنسان من سفك دماء وإفساد في الأرض، لكن كانت هذه وجهة نظرهم المبنية على وجود قوم قبل خلق آدم يفسدون في الأرض، فقالت ما قالت على هؤلاء القوم وما جرى في الأرض من أفعالهم، أو لأسباب أخرى اطلعت عليها فقالت ما قالت، فأخبرهم الله بأنه يعلم ما لا تعلمه الملائكة، وأن هذا الخليفة يحكم في الأرض بشرع الله ودين الله، وينشر الدعوة إلى توحيده والإخلاص له والإيمان به، وهكذا ذريته بعده يكون فيهم الأنبياء، ويكون فيهم على أفعال بني الجن الذين أفسدوا في الأرض قبل أن يسكنها آدم وذريته.
لقد تناسى الإنسان السبب الحقيقي لوجوده على هذه الأرض -وما أبرئ نفسي-، وهو أننا خلفاء الله على أرضه وهدفنا الأساسي هو نشر تعاليمه من سماحة وسلام ومحبة، لكن جهل وغرور الإنسان الذي أخذته الظنون أنه إله مصغر يمكنه أن يفعل ما يحلو له، فخلق لنفسه المبررات والحجج، تحت مسمى إعمار الأرض، وبحثه الدائم عن أشياء ليس عليه بها بسلطان، دفعه إلى الفساد والخراب الذي ينشره في هذا الكون.
لقد تناسينا نحن بني آدم الهدف الأساسي من الرحلة، تلك الدوافع الخفية التي خلقها الإنسان لنفسه كي يمجد قصته ويخلدها، متناسيًا أن الحياة ما هي إلّا دار فناء، مجرد اختبار، هذا الواقع الذي يطاردنا في يقظتنا ويقتحم علينا حياتنا، ليسرقنا من أنفسنا على الدوام، ولا يمكننا من أيّ خلوة حقيقية، ونحن نظل ضائعين في ضوضاء هذا الكون المؤقت، حتى يسدل علينا غطاء العمر، وتغلق الأبواب وتبدأ الرحلة الحقيقة ونسأل عن حقيقة ما فعلناه، فنعجز عن الرد لأننا أضعنا أعمارنا جريًا وراء سراب، كلما ظننا الوصول اكتشفنا أنه بلا جدوى وعلينا مواصلة البحث، لندرك في النهاية أننا أخذنا الطريق الخطأ من البداية.
لذلك علينا أن نعيد التفكير فيما مضي وما سوف يأتي، لنتخلص من غرورنا البشري وجهلنا الذي حتمًا سيسقط بنا في دوامة الزوال الأبدي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.