عزيزي رمضان، الشهر العظيم الذي يبشر بالرحمات، والضيف الكريم الذي يجود بالخيرات، سلام الله على أيامك المحسنات ولياليك المؤنسات، كل عامٍ وأنت بخيرٍ تسوق إلينا البشرى، وكل عامٍ نستقبلك بكل جميلٍ يليق بك، وبعد:
منذ عهدٍ مضى، أتخيلك حين تزورنا كملاكٍ له جناحان تطير بهما على رؤوس الخلائق، تحط برفقٍ فوق المنازل والديار وتجوب الشوارع والأزقة، تفتش بين الناس بحثاً عن حزينٍ هنا وهناك، على مقربةٍ من شرفة لطيفةٍ يخرج منها ضوءٌ خافتٌ وصوت تلاوةٍ خاشعةٍ تأخذ اللب، يخيل لي من بعيدٍ أنه صوت للمنشاوي -رحمه الله- حتى يتأكد ظني، تقترب من أحدهم تسأله بلطفٍ: ما بك يا صاحبي، أراك مهموماً كمن حل عليه الحزن ضيفاً؟ فيتمتم بلسان البائس: لقد افتقدت الفرح في بيتنا يوم افتقدت والدي، له عامان وأربعة أعيادٍ وثلاثة أشهرٍ وسبعة أيامٍ لم يعانقني، فهل لمثلي غير الهم والأسى؟! فتبتسم له وتضمه إلى صدرك وتقول: لا تحزن يا جميل، ما ودَّعك ربك وما قلى.
ثم تنتقل إلى بيتٍ آخر، إلى حجرةٍ يتوهج نورها كأن بها أحداً يغالب النعاس ويغلبه، فتجد فتاةً في بداية عقدها الثالث تنفطر حزناً وعلى محياها بعض الغضب، فتبادرها السؤال: وأنتِ ما يغضبكِ يا أختي؟ فتجيب: أشعر بالوحدة كثيراً وبالحنين إلى نفسي أكثر، لا أحد يفهمني رغم محاولاتهم الجادة في التعبير عن الفهم. تبتسم لها ثم تلقي نظرةً على الأفق: هذا بعيدٌ عن أهله يفطر وحيداً في غربته، والوطن الذي خرج منه قد اغترب بأهله. وذا يخاف أن يفوته الزواج ممن أحب لأن الظروف ليست في صالحه، وهذه أمٌّ ليتامى صغار تجاهد في إطعامهم بعد أن فقدوا ساعدهم، وتلك أضنتها كثرة المواد الدراسية حتى كرهتها فلم تعد تعرف ماذا تريد، وهؤلاء متخاصمون ولم يبادر أيهم بالصفح مخافة جرح كبريائه، وهذا شيخٌ كبيرٌ ينظر لطفلٍ صغيرٍ فبكى على أيامه التي مضت. في مكانٍ واسعٍ تجمعهم، تفرق البسمات على وجوههم، تخفف الحمل عن صدورهم وتستمع إلى شكواهم، وتحمل عنهم ما لا طاقة لهم به، ثم نرفع أكفَّ الضراعة إلى الله جميعاً، ندعوه بالستر والفرج وسعةً في الرزق، وأمناً عند الكرب وصبراً على كل ضيق.
عزيزي رمضان، دائماً ننتظر بلهفةٍ أول ليلةٍ عند مجيئك، حين نتهيأ للسحور الذي هو سنة مؤكدة عن النبي ﷺ حين قال: "تسحَّروا فإن في السحور بركة". أوقظ أمي عند الثانية والنصف تقريباً لتعد لنا الطعام وأكواب الشاي وما أحلى البسمة التي تعلو وجهها وهي تدعو لنا بالستر والرزق الحلال، وما أن نفرغ من السحور حتى نصلي الفجر جماعة ويكون أبي إمامنا، ثم يتفرق البعض إلى النوم لينال قسطاً من الراحة قبل الذهاب إلى العمل، والبعض إلى قراءة ما تيسر من كتاب الله.
ما أجمل ذاك الوقت بين الفجر والشروق إذا تخللته قراءة القرآن، فيكون استفتاح اليوم مباركاً، وختامه مباركاً. في وقتٍ لطيفٍ هكذا، حين تهدأ الأصوات، وتخلو الطرقات من المارة إلا قليل من الناس، وتبدأ خيوط النهار في الظهور رويداً. حينها ينزوي المرء في ركنٍ هادئٍ في "بلكونة" مطلةٍ على الطريق، أو فوق سطح البيت، أو داخل حجرته، فيخصص مصحفاً معيناً معطراً بعناية، ويغلق باب الأفكار التي أرهقت عقله وقلبه ويبدأ في القراءة.
يمضي النهار خفيفاً من رحمة الله، فنصلي الظهر والعصر، ثم تأخذني قدماي أعلى السطح، حيث خيوط الشمس تأذن في المغيب، فأرى السماء تتجسد كعروسٍ مخضبة وجنتيها من الحياء، وتزينها بعض السحب وتروح الطيور وتغدو كأنه يوم عيد. أنظر فوقي وأقول: يا رب، سبحانك يا مالك الملك، يا باسط الأرض ويا رافع السماء، ارض عني وعن أهلي وعن المسلمين، اقبل صيامنا وقيامنا ودعاءنا ورجاءنا، قربنا إليك ولا تبعدنا، واسترنا ولا تفضحنا، ارزقنا البصيرة عند التشتت والحكمة عند الاختيار والطف بنا فيما جرت به المقادير.
تغيب الشمس ويرفع أذان المغرب بتوقيت القاهرة، فأنهي دعائي بشيءٍ وقر في قلبي منتظراً أذان الإسكندرية، ثم أنزل الدرج مسرعاً فرحاً لأصبَّ المشروبات في كؤوسها: البلح بالزبيب والتين، والسوبيا باللبن، وذاك السائل الأسود الغريب الذي يفضله أبي؛ "العرقسوس"، ثم أختار أكبر كوبٍ لنفسي من كل صنفٍ فيضحك الجميع من فعلتي في كل مرة. نفطر بدايةً على بضع تمرات ونردد دعاء النبي ﷺ: "ذهبَ الظَّمأُ وابتلَت العروقُ وثبُتَ الأجرُ إن شاء الله".
بعد أن ننتهي من الإفطار ونجلس رويداً لنتبادل أطراف الحديث، أسرع أنا لتغيير ملابسي لألحق صلاة العشاء في المسجد الكبير قبل أن يغلق لاكتمال العدد. أسرع الخطى وحولي المحال والدكاكين قد تهيأت للفتح واستقبال الليل، وبدأت الأنوار والزينة وأصوات الأطفال برسم اللوحة الكاملة لقدوم الشهر الكريم.
تبدأ الصلاة وكأنها أول صلاة لنا كمسلمين، أرفع يدي لتكبيرة الإحرام فأشعر وكأن ذنوبي عالقةً بها، أشعر بالخجل من نفسي ويتراءى لي الشيطان حولي يضحك ويقول: انظر إلى حالك بين كل هؤلاء الناس، أنت أفقر مؤمن فيهم! يبادر الإمام بتلاوة الفاتحة فيهدأ قلبي قليلاً، وتستقر نفسي مع كل آية: (بسم الله الرحمن الرحيم)؛ أشعر معها بالسكون الذي بدد حيرتي وضبط دقات قلبي، (الحمد لله رب العالمين)؛ بالأمن المرسل الذي لا ينتهي من رحمة الله التي تسع العالمين فكيف بمسلمٍ موحدٍ به، (الرحمَن الرحِيم)؛ بأن كل الأشياء الكبيرة التي فاقت عقلي قد فقدت قيمتها الآن وباتت طي النسيان، (مالك يوم الدين)؛ تصغر في عيني الدنيا حتى تتلاشى وكأن الجنة أمامي مفتحةٌ أبوابها، (إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين)؛ تسكن نفسي بعد ضجيجها، ويتضح لي الطريق بعد أن فقدت جادته، وكأن الله يأخذ بيدي ويرشدني مراراً وتكراراً إلى الوجهة التي لا يخسر سالكها.
عزيزي رمضان، لا ترحل عنا سريعاً فأنت نعم الضيف، ولا تتباطأ في القدوم ثانيةً فإنا إليك راغبون.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.