في إحدى ليالي الخريف المتقلِّب، اقتادتني نفسي لأن أجرِّب اختبار قياس الشخصيات الشهير "مايرز بريغز"، أو ما يعرف بمؤشر مايرز بريغز للأنماط (Myers-Briggs Types Indicator – MBTI) المعتمد على نظريات "كارل يونغ" التي وضعها في كتابة "الأنماط النفسية" عام 1919م، وهو أحد أشهر الاختبارات التي تحدد نوع الشخصية البشرية وطباعها وتفضيلاتها. وقد تم تطوير الاختبار وإدخال عددٍ من التحسينات عليه، حتى نُشرت أول نسخةٍ معتمدةٍ منه عام 1962م.
بداية الظهور الفعلي للمؤشر؟
ظهر مؤشر مايرز بريجز في القرن الماضي، حيث افتتنتا "إيزابيل بيرغز مايرز" ووالدتها "كاثرين كوك بريغز" بنظرية "كارل" للأنواع النفسية، ومن هنا انطلقت رؤيتهما بأن النظرية يمكن أن يكون لها تطبيقات في العالم الحقيقي، وخلال الحرب العالمية الثانية، بدأتا البحث لوضِع مؤشر يمكن استخدامه للمساعدة في فهم الفروق الفردية. وقد كان هدف المؤشر حينها هو مساعدة الناس على فهم أنفسهم، واختيار المهن التي تناسب شخصياتهم، وأن يعيشوا حياة أكثر صحة وسعادة، ومنذ حينها تعرض هذا المؤشر لعدة تطويرات، حتى أصبح اليوم من أكثر الأدوات النفسية استخداماً في العالم، وخصوصاً بسبب دقته العالية.
وبالرغم من عدم الدقة والبيان "بشكل تام" لتلك المقاييس، والتي لا تخفَى على البعض، فإنَّها -كعلمِ النفس القائمة عليه تماماً- يغلبُ عليها التخمين والارتياب، كونها خاضعة لعلمٍ لا يُعامل على أنَّه علمٌ تجريبيٌّ، وربما يَقبلُ الكثير من المطَّاطية في معطياته ومخرجاته على حدٍّ سواء. إذن فمن البديهي أنه لا يُعد مؤشر مايرز بريجز اختباراً ثابتاً، فلا توجد إجابات صحيحة أو خاطئة، ولا نوع معين أفضل من نوع، حيث إن الغرض من هذا المؤشر ليس تقييمَ الصحة العقلية أو تقديمَ أيِّ نوعٍ من التشخيص. غير أنَّ السياق العام الذي تُصنَّفُ به وتشير إليه كلٌّ من هذه الشخصيات، يكون صحيحاً نسبيّاً لا سيما أن الاختبار قائمٌ على أسسٍ علميةٍ حقيقية، وضعها كارل يونغ نفسه.
وعلى عكس العديد من أنواع التقييمات النفسية الأخرى، فلا تَتِمُّ مقارنةُ نتائجِك مع أيِّ معاييرَ محددةٍ، وبدلاً من النظر إلى درجاتك مقارنةً بنتائج الأشخاص الآخرين، فإن الهدف من الأداة هو ببساطة تقديمُ مزيدٍ من المعلومات حول شخصيتهم الفريدة.
اخترتُ بالفعل موقعاً موثوقاً ضمن عدة مواقع مشهورة للقياس قد اطلعتُ عليها مسبقاً، وبدأتُ في قراءة التعليمات الإرشادية قبل بدء الاختبار. طُلبَ منِّي في البداية مراعاة تحرِّي الصدق التام عند الإجابة، مع الأخذ في الاعتبار عدم ترك أي خانةٍ من الأسئلة في موضعٍ تباينٍ، لا هذا ولا ذاك، بل تميلُ الكفة إلى أحد الجانبين. في غضونِ عدةٍ دقائق -ربما لم تتجاوز الربع ساعة- أنهيتُ جميع الأسئلة ومعها الاختبار كاملاً. تباينت الأرقام بين الانطوائيةِ المتوسطة، وكثرةُ التخيُّلات والأحلام التي يرتبط بعضها بالواقع ويتعارض البعض معه، وحساسية التنظيم؛ حيث يلتصقُ بسائر حياتي وأشيائي، وكأنني حلمت بارتياد كلية الهندسة من شدة انتباهي للتفاصيل الدقيقة.
كان "المحامي INFJ-T" أو هكذا لُقبت، الفئة التي حملتُ صفاتها، وأسلوب معيشتها ومشاعرها، وطريقة تعاملها وتواصلها مع الآخرين.
ما دلالة تلك الرموز، وكيف يعمل مؤشر مايرز بريجز؟
بعد دراسة الشخصية دراسةً استقصائيةً سريعةً، أدركت أن المؤشر يعتبر أحد الأدوات التحليلية التي تقوم على جمع عدة معلومات عن الشخص، ثم تصنيفه ضمن واحدة من 16 عشر شخصية مختلفة، بحيث تتكون كل منها من 4 حروف، كل حرف يمثل مبدأً واحداً من مبادئ المؤشر، وتلك المبادئ هي:
1- المبدأ الأول: التفاعل مع العالم
اكتشف "يونغ" في نظريته ثنائية الانطواء، طريقة لوصف كيف يتفاعل البشر مع العالم من حولهم، وقام بتقسيمهم إلى قسمين: المنفتحين، أي أولئك الذين غالباً ما يكونون مهيَّئين إلى العالم الخارجي، ويتمتعون بتفاعل اجتماعي أكبر، كما يشعرون بالنشاط بعد قضاء الوقت مع أشخاص آخرين، ويتم الرمز لهم بحرف "E".
أما القسم الثاني فهم الانطوائيون، وهم الذي يميلون إلى التركيز على التفكير، كما تكون تفاعلاتهم الاجتماعية قليلة وعميقة وذات مغزى، وغالباً ما يشعرون بإعادة الشحن بعد قضاء الوقت بمفردهم، مما يكسبهم قدراً من التركيز والقدرة على الإنجاز والمواصلة، ويرمز لهم بالحرف "I".
والجدير بالذكر أننا جميعاً نُظهر الانفتاح والانطواء إلى حدٍّ ما، ولكن معظمنا يميل إلى تفضيلٍ عامٍّ لأحدهما.
2- المبدأ الثاني: جمع المعلومات
هل تفضل التركيز على المعلومات الأساسية التي تتعلمها فقط؟ أم تفضل أن تفسرها وتضيف المعاني إليها؟
في الحالة الأولى إن كنت تلتقط المعلومات من العالم الخارجي كما هي بالضبط، وتستطيع تمييز خصائصها بسهولة؛ هذا يعني أنك استشعاري، أي تعتمد على حواسك في تعلم العالم المحيط بك، ويميل الأشخاص الذين يفضلون الاستشعار إلى دفع قدر كبير من الاهتمام بالواقع، وخاصةً ما يقومون بتعلمه باستخدام حواسهم الخاصة، كما يميلون إلى التركيز على الحقائق والاستمتاع بالتجربة العملية، ويرمز لهم بالحرف "S".
على الجانب الآخر في حالِ كنت تفضل التعلم من خلال التفكير والتخيُّل؛ هذا يعني أنك حَدْسي، وأولئك الذين يفضلون الحَدْس في العموم، يبذلون المزيد من الاهتمام لأشياء المعقدة من حولهم مثل الأنماط والهياكل والانطباعات، كما يتمتعون بالتفكير في الاحتمالات، وتخيل المستقبل، وضع النظريات المجردة، ويرمز لهم بحرف "N".
3- المبدأ الثالث: طريقة اتخاذ القرارات
قبل اتخاذ أي قرار أتُفَضِّل النظر أولاً إلى المنطق؟ أم النظر إلى الأشخاص وظروفهم؟
حسناً، في حال كنت تعتمد على المنطق وأدلته في اتخاذ القرارات، وتفُضل -في غالب الوقت- قياس الأمور بشكل تجريدي أكثر من خلال التركيز على الحقائق والبيانات الموضوعية -بحيث تكون قراراتُك متسقةً وغيرَ شخصية- فهذا يعني أنك تندرج تحت المفكرين ويرمز لهم بحرف "T".
أما في حال كنت تُفضل الاعتماد على المشاعر، وتفضل اتخاذ القرارات بناء على حالات الأشخاص الآخرين، فأنت في هذه الحالة بلا شك تقبع تحت مظلة العاطفيين، ويرمز لهم بحرف "F".
4- المبدأ الرابع: التنظيم
في التعامل مع العالم الخارجي أتفضلُ أن تخطط للأمور جيداً؟ أم تفضل الخيارات المفتوحة وتجربة الأشياء الجديدة؟
في الحالة الأولى سوف تكون شخصاً تخطيطيّاً بلا شك، وسوف تميز ذلك بسهولة إن وجدت نفسك دائماً أمام جداول أهدافك، وخططك المستقبلية، ويطلق على الشخص المخطط حرف "J"، وغالباً ما تكون قراراتهم صارمة وثابتة وصعبة التغيير، خصوصاً أنها تكون مبنية على خطط مسبقة.
على النقيض الآخر في حال كنت تفضل الارتجال والاعتماد على إدراكك اللحظي للتعامل مع الأمور؛ فهذا يعني أنك شخص احتمالي، ويُرمز له بحرف "P"، وتتميز قراراته بالمرونة مقارنة بالشخص المخطط.
هل هناك فائدة فعلية لمؤشر "مايرز بريجز" في الحياة العلمية والعملية؟
وفقاً لمؤسسة مايرز آند بريجز، فإن جميع الأنواع متساوية ولها قيمتها، فعند العمل في حالات جماعية في المدرسة أو في العمل، فإن التعرف على نقاط القوة الخاصة بك، وفهم نقاط القوة لدى الآخرين قد يكون مفيداً للغاية؛ حيث إنه عندما تعمل على إكمال مشروع مع أعضاء آخرين في مجموعة، قد تدرك أن بعضهم يتمتع بالمهارات والموهبة في أداء إجراءات معينة، ومن خلال التعرف على هذه الاختلافات، يمكن للمجموعة تعيين وتقسيم المهام بشكل أفضل، والعمل معاً على تحقيق أهدافهم.
لذا يعتبر استخدام مؤشر مايرز بريجز في عملية التعليم أمراً مفيداً إلى حد ما، وفي الغالب تَتَبَدَّى نتائجُه مرئيةً على الفور، خصوصاً إذا ما أردنا تطبيقَ التعليم الفردي، من خلال الاهتمام بمعرفةِ قدراتِ كلِّ طالب على حِدَةٍ، ومِن ثَمَّ الالتفاتَ إلى تطويرهم بطرق فريدةٍ مخصصة لهم، وهي خُطوة أولى ورائعة في تحسين الاتصال، وقدرات الطلاب، بل أكثر من ذلك بكثير!
أعتقدُ أن التعمق في فهم الدين والعقيدة الصحيحين، ثُمَّ الإبحار في العلوم الاجتماعية والإنسانية، له دورٌ رئيسيٌّ في تشكيل وعينا وثقافتنا وسلوكياتنا، ناهيك عن السلام النفسي الناتج عن رسوخ القيم الصحيحة والأفكار المُنتقاة داخلنا، والتي نكتسبها ونؤمن بها، ومن ثمَّ يعود النفع في النهاية على نظرتنا الكلية للمفاهيم والحقائق الجوهرية الكبرى: كالنجاح (الفلاح) والرضا والقناعة والسمو الروحي، والمكانة الاجتماعية بين البشر، وكيفية بناء الذَّات وتزكيتها والحفاظ عليها من المدخلات الخارجية التي قد تؤثر سلباً عليها، وكذا فهم الغاية التي خلقنا لأجلها، وتميزيها عن الوسيلة الموصلة إليها، في زمنٍ قد اختلطت فيه المفاهيم وتبدَّلت، وحلَّت الوسائل محل الغايات، وأصبح القابض فيه على دينه وقيمه وأخلاقه كالقابض على الجمر بعد احتراقه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
● المراجع:
1. Myers-Briggs Type Indicator
2. An Overview of the Myers-Briggs Type Indicator
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.