كنت أجلس بجانب جدتي وهي تحاول فهم التعامل مع هاتفها الجديد "أهذه الأزرار للاتصال؟".
قلت على عجل: "نعم، للاتصال وهذه لفتح الرسائل وهذه للرد وتلك هناك لـ…".
قاطعتني بعصبية: "لمَ أنت مستعجلة، ماذا هناك؟ هكذا أنتم جيل اليوم تركضون في الدنيا على عجلة بلا وعي".
أنهت جدتي كلامها ونهضت لتنام أما أنا فكنت شاردة بجملتها "لما أنا مستعجلة هكذا ؟!".
فحتى منصة نتفليكس التي أمامي كنت أتابع فيلمها على عجلة، فمنذ أن أضافت المنصة خاصية السرعة وأنا أشاهد كل أفلامها ومسلسلاتها بسرعة، فالخاصية تلك أصبحت تمنحني القدرة على إنهاء الفيلم ذي الساعتين بساعة واحدة فقط، بغض النظر عن الحوار السريع واللهجة غير الواضحة وحتى تفاصيل المشاهد الضائعة بسبب خاصية التسريع تلك، المهم أنني أكون قد أنهيت الفيلم الذي أتابعه بسرعة!
نعم، بسرعة! تلك هي الكلمة التي باتت تسيطر على عالمنا الحالي الحقيقي منه وحتى الافتراضي فنحن لا نعرف من الحياة سوى سرعتها، سرعة انتشار الخبر، سرعة توثيق الصورة والحدث، سرعة الوصول رغم الصعوبات المهم ألا نتعارض مع مبدأ السرعة المحيط بنا من كل صوبٍ وجانب.
حتى الترويج لمنتجك بات يعتمد على السرعة، ففي إحدى الدراسات العلمية لوحظ أن الإعلان التجاري لأي منتج في بدايات القرن الماضي كان يحتاج دقيقة كاملة حتى يستطيع جذب انتباهك كمشاهد، أما الآن وفي وقتنا الحالي يجب ألا يتجاوز الإعلان العشر ثوانٍ وإلا بات إعلانك فاشلاً وعليك إعادة صياغته.
نعم، فالعشر ثوانٍ تلك هي مقدار حركة إصبعك وأنت تقلّب الشاشة بحثاً عن الخبر، والعشر ثوانٍ هي الزمن الكافي لنشر ستوري تختصر فيها أحداث يومك على إنستغرام، والعشر ثوانٍ هي فيديو سريع على تطبيق تيك توك قد ينقل لك قصة عابرة أو نكتة بلا معنى، والعشر ثوانٍ هي المدة الكافية لمشاركة أحدهم مناسبة اجتماعية عبر فيسبوك من خلال تعليق يتضمن تهنئة أو ربما تعزية أو حتى مباركة زواج وقدوم عيد… نعم، هي عشر ثوانٍ لا أكثر كل ما نحتاج!
ولكن ما لم نكن ندركه أن العشر ثوانٍ تلك ستسقطنا في فخ السرعة لتصبح حياتنا ونجاحاتنا وسعادتنا كلها رهينة لمبدأ السرعة، لأن كل ما هو سريع ناجح وكل ما هو بطيء فاشل.
فإذا مضى على الزواج بضعة شهور وهو لا يزال محمّلاً بالمشاكل فذلك يعني أنه زواج فاشل وعليه أن ينتهي بالطلاق فوراً.
أما الوظيفة الجديدة التي لم يمض عليها سنتان إذا ما زالت بطيئة ولا تمنحك ترقيات جديدة فما هي إلا وظيفة فاشلة وبات عليك تغييرها.
وذلك المشروع الذي استثمرت به منذ فترة قصيرة ما دام لم يمنحك نتائج كافية حتى الآن فهو فاشل وعليك إنهاؤه للبدء بمشروع جديد.
وتحت ذلك الشعار الوهمي أصبح معظم الشباب في هذا العصر يسعون لتحقيق النجاح السريع بأي وسيلة ممكنة حتى لا يمضوا عمرهم بين عثرات وسقوط وفشل وهم على أبواب منتصف العشرين.
وبين رفض لفكرة التريّث والسرعة لتحقيق النتائج يسقط الجميع في حالة من الإحباط والاكتئاب بسبب عدم القدرة على مواكبة العصر وسرعته لننسى أن كل ما كنا نحتاجه بعض الصبر والقليل من الانتظار.
وبما أنك استطعت الوصول إلى هنا في هذه المقالة لربما لم تكن ممن يعانون من معضلة السرعة، ولكن بما أنني لا زلت أكتب عن السرعة أعتقد أنه بات عليّ أن أنهي كلامي بسرعة فنحن لا نستطيع القراءة لأكثر من بضع ثوانٍ لذا اعذروني إن تجاوزت المدة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.