دائماً ما يسأل المرء نفسه، يواجهه سؤاله عند كل نازلة بردٍ بالذين يحبهم، عند كل سعال، عند كل نظرةٍ حنون، عند كل افتقادٍ لساعة واحدة، عند كل نداءٍ يقول إن الحاجّ فلان مات، عند كل ذكرٍ لسيدة من عمر الذين نحبهم، مسبوقةً بلقب "المرحومة"، عند كل نوبة مرضٍ تكاد تطول قليلاً، تصير أثقل مع العمر، ويصير الذين نحبهم أضعف بكثير، ونصبح أمام حقيقة التجاعيد المرة، يحاولون التمهيد، المداعبة، يقولون: "خلاص بقى مش هناخد زماننا وزمن غيرنا"، وتأبى أن تسمعهم، أو أن يكملوا الجملة، ثم أول ما تخلو بنفسك، تسمع عقلك يقول: ماذا لو مات كبار السن؟
مع الوباء الجديد، خرج الخبراء يطمئنوننا -حسب اعتقادهم- أن نسبة الوفيات في الشباب تقترب من الصفر، وأن النسبة الكبرى من الكبار؛ "كورونا لا يقتل إلا كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة"، ظانّين بذلك أنه من "حسن الحظ"، وأنه لا داعي للقلق، وأن بقية الحالات حين تمرض، لن تموت، كأن الذين سيموتون تحصيل حاصل، شيء غير مهم، مجرد شيوخ وعجائز، فضلات المجتمع، الزوائد الدودية في جسم الأرض، خمسة آلاف إنسان يموتون في شهر بسبب وباءٍ مشكلةٌ كبرى، لكنها تهون حين نسمع أنَّ ليس بينهم طفل واحد ولا شاب.
أعود للسؤال، أفكر بصوتٍ منخفض، أقول ماذا لو مات كبار السن؟ أحاول حساب الأمر بصورة رياضية بحتة، لو كنا 100 شخص، ومات 20 من الشباب، ستكون مشكلة، لكن المشكلة في الحقيقة ستكون أكبر، إن مات 20 من الكبار، لأن بموتهم، سيموت الثمانون الباقون، لأن أعمارنا في الأساس معلقة بالكبار، حبلنا السرّي ما زال متصلاً بهم، دعواتهم هي الشيء الذي يبقينا على قيد الحياة.
يتخيل المرءُ العالم بلا جد أو جدة، مَن سيدعو لنا؟ من سيسجد في اليوم ألف مرةٍ من أجلنا؟ مَن سيحارب في معركتنا بدلاً منا بلا مقابل؟ مَن سيأخذ بأيدينا حين نتعب ويقبلها؟ وهذه الجباه الساخنة في المرض.. من سيشفيها بكفيه الحنونتين؟ وذلك الطريق المليء بالزجاج، من سينام فوقه لنعبر دون أن نتأذى؟ وتلك المسافة التي بين جزيرتين، ونخاف أن نقفز فنموت، من سيجعل من جسمه الضعيف جسراً قوياً لنا لنعبر، حتى لو ظل يعاني طوال عمره بعدها من ألم في فقرات الظهر؟
أمشي بالشارع، أرى الكبار وعلى وجوههم الأسى، يسيرون وحدهم، لا يضعون الكمامات الواقية، لا يستعملون معقماً لأيديهم في المواصلات العامة، يجلسون بالمقاهي فتراتٍ طويلة، يتصافحون بلا مبالاة، يضحكون ويبكون، وفي حلوقهم مرارة أشد من تلك التي تصاحب الفيروس، وفي صدورهم سعالٌ كبير مكتوم، يفجر الرئات من الداخل، وحديثٌ طويل لا يقولونه، لكن تقوله عيونهم، ينظرون إلى الشباب، يريدون عتابهم، يريدون أن يقولوا أشياء كثيرة، لكن تسبقهم ألسنتهم المعتادة توصيتَنا أن نكون بخير، أن نحرص على صحتنا، وحين نرجو منهم المثلَ يضحكون، يقولون: "إحنا خلاص.. المهم أنتم".
أشعر بهم يسألوننا كيف تجرأنا على ذلك، كيف صار للمرض سمعةٌ حسنةٌ لأنه يقتلهم وحدهم ولا يقتلنا، كيف صرنا لا نخاف وكيف شعرنا بالأمان حين ضمنّا -نسبيّاً- الحياة، بينما هم مهددون بالموت أقرب من أي وقت مضى.
يشاهدون التلفاز، يستمعون إلى الخبراء، وأفكر أن أضع نفسي مكانهم، كأن الخبراء يقولون: الكبار في أمان، لا داعي للقلق، لا يموت إلا الشباب، سأعيش في رعبٍ يشبه رعب المحكوم عليه بالإعدام، وينتظر الخامسة صباحاً من كل يوم، ليطمئن أنه لم يمت بعد، وأن صوت الطبلية لم يكن يعنيه، حتى وإن كان يعني محكوماً آخر معه بالقضية نفسها.
ثم أقول: ماذا لو مات الشباب؟ ماذا كان سيفعل الكبار إن سمعوا أننا معرضون أكثر للوفاة، أقسم إنهم كانوا سيحلقون شعرهم الأبيض، سيلصقونه برؤوسنا، سيصبغون شعورهم بحنّة سوداء، كأنهم يقولون لملك الموت: نحن الشباب لا هم، خذنا بدلاً منهم، وكأننا سنتنكر من الموت، سنهرب من قبضته وننجو من عينيه. كانوا سيتصلون بنا كل دقيقة يتأكدون أننا ما زلنا نتنفس، أننا نضع على رؤوسنا الشعر الفضي، أننا نواظب على رسم التجاعيد كل يوم ونحرص على الانحناء فوق العكازات، حتى ينصرف ملك الموت وجعبته فارغة من أرواحنا.
أعود أتألم: ماذا لو مات كبار السن؟ سنموت، سنهلك نحن أيضاً، هل يعيش الناس حين تتوقف قلوبهم عن النبض؟ أبداً، سيهلك الجميع، سيموت الصغار، سيفنى العالم وتنتهي الدنيا، ببساطةٍ لأن الكبار شرط من شروط التوازن البيئي، مثل نسبة الأكسجين في الجو، ونسبة ثاني أكسيد الكربون في الهواء، فلا بد من نسبة أنفاس الكبار في الدنيا، حتى يتنفس الأطفال نسبتهم بهدوء، دون أن يموتوا مختنقين.
ماذا لو مات كبار السن؟ من الآن أبكي. وأقول: سيعيشون، سيمر الوباء وألف وباءٍ بعده ويبقون، كأبي الهول يحرس أهرامات الشباب، مات الشباب، ولم يمت أبو الهول، ظل واقفاً مكانه يهش عنهم مخاطر الزمان. ماذا لو مات كبار السن؟ سنموت جميعاً، لأنهم شرط من شروط الحياة. ماذا لو عاش كبار السن؟ سنعيش جميعاً، لأنهم كل يوم يفدوننا، ويترجون الموت أن ينصرف ويأتي غداً فيقبضنا، على ضمانتهم، وإن لم نلزم أماكننا وأتى الغد فلم يجدنا، فعليه أن يقبضهم هم، يهربوننا ولا يخبروننا السبب، يأتي الموت غداً فلا يجدنا، ويجدهم منتظرين، يقولون: الآن اقبضنا نحن، هكذا كان الاتفاق.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.