شاطئ البحر الأسود في تركيا.. طعام يستحق السفر من أجله

على ضفاف مدينة سينوب التركية، المطلة على البحر الأسود، جلست الصحفية كارولين إيدون وزوجها ،

عربي بوست
تم النشر: 2019/04/04 الساعة 12:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/04/04 الساعة 12:18 بتوقيت غرينتش
مشهد من طرابزون التركية / istock

على ضفاف مدينة سينوب التركية، المطلة على البحر الأسود، جلست الصحفية كارولين إيدون وزوجها يتناولان أكلة مانتي الشعبية، وهي عبارة عن عجين طري يعلوه الزبد الذائب، والجوز المفروم، واللبنة الثخينة الناعمة.

في البحر كانت ترسو سفن تحمل أسماء على شاكلة Masallah وSeref Kaptan، بينما تفوح رائحة الطعام اللذيذ على الواجهة البحرية.

ثم قدم النادل محملاً بصحن من الحلوى تشبه حلوى المرصبان وفوقها نصف قطعة من الجوز، وقال: "هذه هدية لأنكِ ضيفتنا".

هذه الوليمة من النشويات اللذيذة كانت السبب الذي دفع بمحررة صحيفة The Guardian لأن تقود 450 ميلاً لتتذوق نكهات تركيا المحلية بعيداً عن وجهاتها السياحية المعتادة كإسطنبول.

كانت الحلوى الهدية من صنع يد خبير السكاكر محمد غوربوز، الذي يقع متجر الحلوى الخاص به "حلواني محمد غوربوز" (Sekerci Mehmet Gürbüz) -والذي يديره ابنه- أمام بائع المعجنات أورنك مانتي (Ornek Mantı).

كان محمد نفسه يعتني بمتجره الخاص ذي اللافتة الخشبية، الذي يقع في بلدة صغيرة تسمى بويابات، وتبعد ساعة عن الساحل.

الطعام التركي يجذب السياح من أوروبا

البحر الأسود
تشتهر تركيا بالمشاوي/ istock

أرادت كارولين مقابلة محمد وتجربة الحلوى التي يصنعها مِن يده مباشرة. وما لم ترغب فيه بعد السفر فعلياً لمسافة 430 ميلاً داخل حافلة، هو أن تبقى مرة أخرى حبيسة مواعيد الحافلات، أو أن تفوّت أياً من المقاهي الجذابة الكائنة على جانب الطريق؛ فاستأجرت سيارة.

كانت ستتوقف عند المدن القديمة أماصيا وتوقاد غير المطلة على الساحل، وهي موطن لتقديم أطعمة غير اعتيادية.

وبعد ذلك ستسافر إلى مدينة طرابزون الواقعة شرق البحر الأسود، ليكون إجمالي المسافة التي سافرتها 450 ميلاً.

وعلى مدى الطريق، خطَّطت لتجربة جميع أنواع الأطعمة التي تقدمها منطقة البحر الأسود في تركيا، بدءاً من الكباب الأصلي، ومروراً بالبندق، ووصولاً إلى منتجات الألبان في الأماكن المرتفعة الغنية.

ولكن، قبل مغادرة سينوب، زارت سجن القلعة، الذي يُعرف أيضاً بـ "الكاتراز الأناضول".

إذ تحول سجن سينوب إلى متحف بعد أن كان سجناً ذا مشهد قاتم.

وكان مِن ضمن الشخصيات التي سُجنت هنا الكاتب صباح الدين علي، الذي كتب رواية "مادونا صاحبة معطف الفرو" ونُشرت في الأربعينات، وهي رواية ظلَّت واحدةً من الكتب الأكثر مبيعاً في تركيا.

وهنا أيضاً قبل 150 عاماً، علَّم سجينان روسيان زملاء الزنزانة الأتراك كيف يصنعون نماذج للسفن؛ لتكون منحوتات ترمز إلى الحرية، وليشغلوا بها أيديهم وأفئدتهم.

والآن، يصنع الحرفيون هذه النماذج من أجل السياح.

المحطة الأولى: بويابات.. جرار من الحلوى وفاصوليا شهية

البحر الأسود
بارتن تركيا/ istock

لم يكن من الصعب الوصول إلى محال الحلويات في بويابات.

داخل المتجر، وداخل خزانات خشبية تشبه خزانات الدواء، اصطفت جرار زجاجية ممتلئة بالحلوى الصلبة اللامعة.

فتح محمد جرة منها، وقرَّبها مِن كارولين لتغمس يدها فيها. وعندما بدأت في مصِّ الحلوى (قال لها: "لا تمضغيها!") بدأ العسل يذوب منها.

عندما كان محمد صبياً في أربعينات القرن الماضي، رفض الانضمام إلى عمل العائلة في مجال التفصيل والحياكة كي يصنع ما يشتهي بشدة، وهي "الحلوى (ليعرضها) عبر الواجهة الزجاجية الخاصة بمتجر الحلوى"، حسب قوله.

اشترت 12 قطعة من حلويات الجوز، مثل تلك الحلوى التي جربتها في سينوب، ووضعت الوعاء المُزين بشريطة حمراء في المقعد الخلفي للسيارة.

غادرت المكان وقادت مع زوحها السيارة تحت ظلال القلعة القديمة بالبلدة، التي كانت شاهدة على الحكم الروماني والبيزنطي والعثماني.

وقفت بعد ذلك لتناول وجبة غداء على عجالة ومن دون تحضير داخل مطعم حرفيين في ضواحي البلدة.

كان أول ما وصل إلى طاولة الطعام خبز طازج ووعاء من الفاصوليا البيضاء في صلصة الطماطم بالمرق المزبّد.

ثم حصلت على سلطة البرغل، وطبق يحتوي على 20 ثمرة من الفلفل الأخضر، وحفنة من الليمون المُقطع إلى أرباع، وحفنة من قطع الخبز المحمص من أجل شوربة العدس.

كانت هذه أفضل "وجبة سريعة" تتناولها على الطريق: "بسيطة، وغير مكلفة، ومتواضعة".

المحطة الثانية: أماصيا.. مشاهد طبيعية سينمائية ومقابر منحوتة

البحر الأسود
إطلالة عالبحر الأسود من تركيا/ istock

ثم غادرت سائحتنا بويابات، وتتبعت حافلة صغيرة ممتلئة حتى آخرها بـ "الذهب الأبيض"، وهو الثوم ذو القوة الخارقة القادم من مدينة قسطموني. يشتهر هذا الثوم بأن طعمه أقوى 10 مرات من الثوم العادي.

كان الطريق إلى أماصيا أشبه بمشهد يُعرض في السينما: تلال مخملية، وشاحبة مثل الكثبان الرملية، تقابلها مساحات شاسعة من الهضاب المتناثرة، وحقول زهرة دوار الشمس، وتعرّجات الطرق التي تفوح منها رائحة الصنوبر، واللافتات الغريبة التي تحذر من الخنازير.

وبخلاف بعض المنعطفات المخيفة على الطريق، كان السير يسيراً والمشهد مريحاً، بينما كانت تبتعد عن البحر الأسود، الذي صار حينذاك على بعد 100 ميل.

ومثلما قال مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك، إذا كانت سينوب جميلة، إذاً ستكون أماصيا جميلة أيضاً جمالاً لافتاً للنظر.

تُحاط المدينة ببساتين التفاح، ويغطي جبل هارسينا جانباً كبيراً منها، إضافة إلى منحدر غير مستوٍ من مسلات الحجر الجيري رمادية اللون التي تصطف على ضفتي نهر يسيليرماك (النهر الأخضر).

وتشرف على المياه مقابر الملوك المنحوتة في الصخر، التي يعود تاريخها إلى القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد.

تُضاء هذه المقابر في الليل بالنيون الأزرق، لتُذكّر بالحكام الفرس عندما شيدوا مملكة البنطس، واختاروا أماصيا لتكون عاصمة لها.

في أماصيا.. مخبز شهي وحساء التويغا والبامية المزينة

 البحر الأسود
خريطة البحر الأسود/ istock

توجهت كارولين في اتجاه مستشفى الأمراض العقلية البالغ عمره 14 قرناً (الذي احتل موقع الريادة في استخدام العلاج بالموسيقى) بحثاً عن مخبز أماصيا كوريكشيسي (Amasya Çörekcisi).

يشتهر هذا المتجر، الذي يخبز الكعك في المدينة منذ 1925، بلفائف الكعك المُحلى، التي تكون ناعمة وهشة ومُزينة بالجوز وبذور الخشخاش والبندق.

ومع عبور النهر، كان هناك طعام أكثر غرابة يستحق التجربة، وهو حساء التويغا التركي، الذي يتكون من الحمص والدقيق واللبن، ويكون قوامه ثخيناً.

تشتهر أماصيا بالبامية أيضاً، التي تقول الأساطير إن فرسان محمد الفاتح كانوا يجففونها ويرتدونها على أنها حبات للزينة.

في تلك الليلة، وبعد احتساء مشروب الراكي في حفلة زفاف، أقامت كارولين مع زوجها في فندق جميل على الطراز العثماني ذي هيئة شبه خشبية ويقع على جانب النهر، وهو فندق أولوهان (تبدأ أسعار الغرفة المزدوجة من 47.5 دولاراً).

المحطة الثالثة: توقاد.. كباب من لحم الضأن فوق الثوم الحار!

وفي اليوم التالي، أخذنا الطريق إلى توقاد، وهو طريق سهل يمكن الوصول إليه بقيادة السيارة لساعتين.

تشتهر توقاد -التي تحظى بتوأمة مع العاصمة الصومالية مقديشو- بالخانات السلجوقية القديمة، وحرفيي أقمشة كاليكو، وبساتين أشجار الكمثرى، فضلاً عن كباب توقاد.

ونظراً إلى أنها كانت متحمسة لتجربة الكباب على الفور، توجهت إلى مقهى سيريتيبي (Seyirtepe Cafe) الكائن على قمة التل.

تحتوي غرفة الطعام المستديرة على نوافذ من الأرض إلى السقف، لتمنح الزوار رؤية ممتدة لتوقاد.

يجري إعداد الكباب عن طريق لحم ضأن قادم من قرية كاراكيا، مع الباذنجان، والطماطم، وحفنة من فصوص الثوم الكاملة والفلفل، ويُقدم فوق خبز اللواش الرقيق، وهو كفيلٌ فور ذكره بإثارة مشاعر أبناء توقاد.

كانت قضمة واحدة كافية لإثبات تميزه.

المحطة الرابعة: طرابزون.. العاصمة الشجاعة والمستضعفة

البحر الأسود
طرابزون/ istock

خاضت رحلتها في اليوم التالي للعودة إلى الساحل، لتتحول من رحلة قصيرة يمكن الاسترخاء خلالها إلى مغامرة مثيرة في رحلة السيارة.

كانت متأهبة لقيادة السيارة 7 ساعات على الطرق الضيقة كي تصل إلى طرابزون، عبر مدينة غيرسون، لكن نظام الملاحة تعطل، فوجدت نفسها من دون قصد تتسلق ممراً جبلياً ضبابياً على ارتفاع 2200 متر، وهو ممر إغريبيل جيشيدي (Eğribel Geçidi).

كان الطريق أسفلتياً، لكنه ممتلئ بالحفر بطريقة سيئة، لذا كان تسلقاً بطيئاً وعلى غير هدى.

تبين لاحقاً أن هذا الطريق مُدرج في موقع الطرق الخطيرة، لأنه يكون دائماً مُغلفاً بالضباب الكثيف الذي يأتي من البحر الأسود والذي تحاصره الجبال.

وفي نهاية المطاف، هبطنا آمنين في مشهد ممتلئ بالجبال الملونة بالزهور البرية ذات الألوان الوردية والبيج والقشدية، التي تنتشر على جانبي الطريق مع البحيرات الزرقاء الصافية.

وصلت أخيراً إلى البحر وإلى مدينة غيرسون، المعروفة بالكرز، وفي الوقت المناسب لاحتساء جعة إيفيس ومشاهدة شروق الشمس الحمراء فوق الميناء.

قادت السيارة في اليوم التالي متجهة إلى طرابزون، عبر الطريق الساحلي المزدحم والمثير للجدل D010، الذي يفصل بصورة قاسية بين المدينة ومواطنيها وبين البحر الأسود.

وبعيداً عن نفوذ أنقرة وإسطنبول، تعتبر مدينة طرابزون عاصمة إقليمية ذات هوية قوية وشخصية شجاعة ومستضعفة.

الحلاوة الطحينية والزيتون الملون والبندق والخبر العبق

تأسست المدينة باعتبارها مستعمرة يونانية في القرن الثامن قبل الميلاد، وتضم الآن مجموعة سكانية مهووسة بكرة القدم، لدرجة أنهم يزينون المقاهي وسيارات الأجرة ومحال الحلاقة باللونين الأحمر الداكن والأزرق، وهي الألوان المميزة لنادي طرابزون سبور.

لا يهتم بزيارة طرابزون إلا قليل من الأوروبيين، بالرغم من متاحفها الإقليمية اللطيفة، ومقاهيها المبهجة، وقربها من أشهر دير في البحر الأسود، وهو دير سوميلا، الذي يشرف على منحدر صخري ويبعد ساعة بالسيارة.

وإنها حقاً مدينة لا تحظى بالتقدير المستحق.

وكثير ممن يأتون إلى هذه المدينة يكونون من الأسر السعودية والبحرينية والكويتية، التي تأتي في الصيف فراراً من درجات الحرارة الحارقة في أوطانهم ويبحثون عن الأشياء التي لا يهتم بها الغربيون الذين يتوقون إلى الاستمتاع بالشمس: وهي التلال الضبابية، والسحب المنخفضة، والسواحل المطيرة، والمطاعم الخالية من الكحوليات.

لقد أضاعت سائحتنا بكل سعادة وقت بعد الظهيرة في أحد الأيام داخل دكان في طرابزون، وتذوقت قطع الحلاوة الطحينية البنية والبيضاء، وابتاعت الزيتون ذا الألوان المختلفة، وتسوقت لابتياع البندق (يأتي 70% من البندق حول العالم من هنا)، وعلقت داخل المخابز الممتلئة بخبز واكفه كبير، وهو خبز ثقيل ومستدير.

تعرض محال البقالة قطعاً مستديرة صفراء من الزبد الذي يأتي من القرى في منطقة تونيا، حيث لا يزال السكان المحليون يتحدثون باللهجة اليونانية.

كان الزبد ذا نكهة عشبية وغنية وصافية ولا يمكن نسيانها، على حد قولها.

كلما غادرت كارولين المدينة شعرت بجوع، لكنها كانت راضية لأن رهانها على قيادة السيارة آتى ثماره.. حرفياً.

ولعل من سيقرأ قصتها في منطقة البحر الأسود، سيهرع لزيارتها ليتذوق نكهاته، حتى لو اضطر للقيادة مئات الأميال من أجلها.

تحميل المزيد