لم تكن ماريا خوسيه مارتينيز باتينيو، عدّاءة قفز الحواجز، طويلة القامة بشكل لافت، ولم تكن مستويات هرمون الذكورة (التستوستيرون) لديها مرتفعة على نحو غير عادي بالنسبة لامرأة. كانت مكتملة الأنوثة من الخارج، لكن في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وحين أظهرت نتائج فحص الكروموسومات أنها تحمل الكروموسومين XY بدلاً من أن تحمل الكروموسومين XX مثل أي امرأة "طبيعية"، استبعدها المنتخب الإسباني لألعاب القوى.
طُردت ماريا من مقر إقامة البعثة الأولمبية وهجرها زملاؤها في الفريق وأصدقاؤها وحبيبها، وخسرت أرقامها وميدالياتها بسبب طفرة جينية لم يثبت أنها تمنحها أي ميزة تنافسية.
القوانين التي تفرّق بين الرجل والأنثى
يعاني الأشخاص مثل ماريا من القوانين التي ترسم خطاً متشدداً بين الجنسين. وفي الولايات المتحدة يبدو أنَّ إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ستزيد الأمور سوءاً.
فوفقاً لمذكرة سُرِّبت لصحيفة The New York Times الأميركية، تحاول وزارة الصحة والخدمات البشرية الأميركية وضع تعريف قانوني ثنائي للجنس وتصنيف كل شخص "باعتباره ذكراً أو أنثى استناداً إلى سمات بيولوجية يمكن التعرف عليها عند الولادة أو قبلها". لكن أجسامنا أكثر تعقيداً من ذلك.
أجسامنا أكثر تعقيداً مما نعتقد
وقد أكد الاعتراف المتزايد بهذا التعقيد من جانب الباحثين وعامة الناس أنَّ الهوية الجنسية تقع على نطاق واسع: أصبح الناس أكثر رغبة في الاعتراف بالهويات الجنسية غير الثنائية والمتحولة جنسياً، وفي دعم الذين يدافعون بشجاعة عن حقوقهم في كل شيء بداية من دورات المياه المخصصة للجنسين معاً دون فصل ووصولاً إلى قوانين مكافحة التمييز بين على أساس نوع الجنس.
لكنَّ الأهم من ذلك كله هو إدراك أن بغض النظر عن نوع الجنس للشخص؛ فإنه له جنس أساسي وُلد به. وهذا يمثل سوء فهم جوهرياً لطبيعة الجنس البيولوجي. ويستمر العلم في أن يظهر لنا أن الجنس أيضاً لا يتناسب مع نظام ثنائي، سواء جرى تحديده من خلال الأعضاء التناسلية أو الكروموسومات أو الهرمونات أو العظام (وهي موضوع البحث في هذا التقرير).
هناك مَنْ وُلد بصفات متداخلة
بدأ التصوّر للفصل القاطع بين الجنسين في التفكك خلال الموجة الثانية من الحركة النسوية في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. وفي العقود التي تلت ذلك، علمنا أنَّ نحو 1.7% من الأطفال وُلدوا بسمات متداخلة بين الجنسين، أي أنّ السلوك وشكل الجسم والحجم جميعها أمورٌ تتداخل بشكل كبير بين الجنسين، وأن كلاً من الرجال والنساء لديهم الهرمونات ذاتها التي تنتقل عبر الدم، وأنه ليس ثمة شيء أنثوي متأصل في الكروموسوم X.
الحقائق البيولوجية معقدة، ويمكن اكتشاف أن هناك أشخاصاً يعيشون حياتهم كنساء -حتى في وقت متأخر منها- يحملون الكروموسومات XXY أو XY.
وتظهر دراسات الهيكل العظمي -المجال الذي أعمل به طالبة للحصول على درجة الدكتوراه في علم الأنثروبولوجيا- وتاريخ هذا المجال أنّ الافتراضات حول الجنس يمكن أن تؤدي إلى أخطاء عميقة، وأنّ الاعتراف بأن الأشياء ليست ثنائية في حقيقتها كما يمكن أن تبدو يمكن أن يساعد في حل هذه الأخطاء. يجب على ترامب ومستشاريه أن يلحظوا ذلك.
العظام وتحديد الجنس
إذا سبق لكم مشاهدة المسلسل التلفزيوني الأميركي Bones؛ فقد سمعتم عن تيمبرانس "بونز" برينان، بطلة المسلسل وعالمة الأنثروبولوجيا والطب الشرعي، التي تدعو زملاءها لتحديد ما إذا كان الهيكل العظمي الذي تحلله لذكر أم أنثى؛ وذلك لأنّ التمييز بين الجنسين مفيد أيّما إفادة في التعرف على الأشخاص المفقودين والمواقع الأثرية على حد سواء. ولكن ما مدى سهولة تحديد هذا الفرق؟
وفي أوائل القرن العشرين، ساعد عالم الأنثروبولوجيا أليش هردليتشكا في التوصل إلى الدراسة الحديثة للعظام البشرية. وشغل هردليتشكا منصب الأمين الأول لقسم الأنثروبولوجيا الفيزيائية في المتحف الوطني الأميركي (مؤسسة سميثسونيان الآن). وصُنِّفت الهياكل العظمية التي درسها هردليتشكا إما ذكوراً وإما إناثاً، دون استثناء على ما يبدو.
لم يكن هو الوحيد الذي اعتقد أن الجنس ينقسم إلى فئتين مختلفتين لا تتداخلان، إذ كتب العالمان فريد ثيمي ووليام شول من جامعة ميشيغان الأميركية عن تحديد جنس الهيكل العظمي عام 1957 قائلين: "لا يُعد الجنس -على عكس معظم السمات المظهرية التي يختلف فيها الإنسان- متغيراً باستمرار لكنه يجري التعبير عنه في توزيع ثنائي واضح. ويعتمد تحديد جنس الهيكل العظمي بشكل كبير على عظام الحوض (على سبيل المثال، تتمتع النساء في كثير من الأحيان بتكوين عظمي مميز)، لكن يعتمد أيضاً على الافتراض العام بأنَّ السمات الأكبر أو الأكثر وضوحاً تكون ذكورية، بما في ذلك الجماجم الكبيرة أو الأماكن الخشنة الكبيرة حيث تتصل العضلات بالعظام. وانتشرت فكرة النظام الثنائي المميز لجنس الهيكل العظمي وانحرفت عن مسارها في السجلات التاريخية على مدى عقود.
لكن عدد الهياكل الذكورية أثار مشكلة
وفي عام 1972، لاحظ كينيث فايس -وهو الآن أستاذ متقاعد في علم الأنثروبولوجيا وعلم الوراثة في جامعة ولاية بنسلفانيا الأميركية- أنّ هناك هياكل عظمية ذكورية أكثر بنسبة تصل إلى 12% من الهياكل الأنثوية في المواقع الأثرية.
بدا هذا غريباً؛ نظراً لأنَّ النسبة بين الهياكل الذكورية والأنثوية يجب أن تكون متساوية. وخلص فايس إلى أنَّ سبب هذا الانحياز للرجال كان هو "رغبة لا تُقاوم في العديد من الحالات لتصنيف العينات المشكوك فيها بأنّها عينات لذكور".
على سبيل المثال، قد تُصنف امرأة طويلة القامة بشكل لافت للنظر وذات وركين نحيلين تصنيفاً خاطئاً بأنّها رجل. وبعد أن كتب فايس عن هذا الانحياز للذكور، بدأت الممارسة البحثية تتغير. وفي عام 1993، أي بعد مرور 21 عاماً، فحصت كارين بون -التي كانت طالبة للحصول على درجة الماجستير من جامعة تينيسي في مدينة نوكسفيل الأميركية- مجموعة بيانات حديثة بشكل أكبر ووجدت أنّ هذا الانحياز قد انخفض؛ إذ أصبحت نسبة الهياكل الذكورية إلى الهياكل الأنثوية متوازنة.
هياكل عظمية غير محددة الجنس
ربما كان ذلك جزئياً بسبب اتباع أساليب أفضل وأكثر دقة في تحديد جنس الهياكل العظمية، ولكنني أيضاً عندما رجعت إلى المقالات التي استشهدت بها كارين، لاحظت وجود الكثير من الأفراد الذين صُنِفوا بأنهم غير محددين الجنس بعد عام 1972، وكان هذا أمر غير مسبوق في الأساس.
ويعكس السماح للهياكل العظمية بالبقاء غير محددة الجنس قبولاً للتباين والتداخل بين الجنسين. لا يعني هذا بالضرورة أن الهياكل العظيمة المصنفة بهذه الطريقة ليست في الواقع لذكور أو لإناث، لكنه يعني أنه ليس ثمة طريقة واضحة أو سهلة لتحديد الفرق. وكما كشف العلم والتغير الاجتماعي في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي أن الجنس معقد، أصبحت فئة الأفراد غير محددي الجنس أكثر شيوعاً في أبحاث الهياكل العظمية وساعدت في تحسين الدقة العملية.
آثار سلبية للنظام الثنائي
على مدى أجيال، كان للتصور الخاطئ بأنَّ هناك جنسين بيولوجيين مختلفين العديد من الآثار السلبية غير المباشرة. فقد لطخ السجلات الأثرية التاريخية، وسبب شعوراً بالإذلال للرياضيين في جميع أنحاء العالم بسبب فحصهم بدقة. وفي منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، مرت اللاعبات الأولمبيات بعملية مهينة لفحص أعضائهن التناسلية للحصول على شهادات الأنوثة. واستُبدل فحص الكروموسومات بذلك في أواخر الستينيات من القرن العشرين، ومن ثم اختبار الهرمونات. ولكن بدلاً من الكشف عن المحتالين، كشفت هذه الاختبارات فقط عن تعقيد الجنس البشري.
قد يكون من الأنسب للحكومة الفيدرالية الأميركية أن يكون لديها نظام ثنائي لتحديد الجنس القانوني؛ لأنَّ العديد من القوانين والعادات الأميركية مبنية على هذا الافتراض. لكن مجرد كونه نظام تصنيف مناسب لا يعني أنَّه صحيح.
تسمح بعض البلدان مثل كندا، وبعض الولايات الأميركية مثل ولاية أوريغون، الآن للأشخاص بالإعلان عن نوع الجنس غير الثنائي على رخصة القيادة أو وثائق تحديد الهوية الشخصية الأخرى. وفي عالم يبدو فيه من الممكن مناقشة ما إذا كانت قوانين مكافحة التمييز تنطبق على الجنس أو الهوية الجنسية؛ تعد كتابة أي منهما في القانون كظاهرة ثنائية بشكل قاطع خطوة على الاتجاه الخاطئ.
تجسد الحالات الشهيرة للاعبات القويات الجريئات اللاتي تعطلت مسيراتهن الرياضية بسبب اختبارات تحديد الهوية الجنسية الأولمبية كم هو مضلل أن يجري تصنيف الجنس أو الهوية الجنسية كنظام ثنائي.
هؤلاء النساء، مثلنا جميعاً، جزء من طيف جنسي، ليس نظام ثنائي جنسي. وكلما أدركنا ذلك كمجتمع، كلما قل الشعور بالإذلال وفحص الأشخاص دون داعٍ، وكلما قل التمييز في عالمنا.