اشتهرت مدينة دمشق بمهارة ودقة أصحاب الحرف اليدوية فيها، ما جعل بعض تلك المنتجات يحمل اسم المدينة، ومن تلك المنتجات الحرير الدمشقي أو البروكار الدمشقي الذي يُعد من أجمل المنسوجات وأكثرها تنوعاً ودقة في العالم.
البروكار.. الحرير المزين بالذهب
يتم صناعة البروكار من خيوط الحرير الطبيعية التي تنتجها دودة القز، والمرسوم بالزخارف المبتكرة، ويدخل فيه الذهب والفضة حتى يزيد من جمال النسيج ويحافظ على ألوانه.
وأفضل أقمشة البروكار الدمشقي يتم صناعتها يدوياً، بواسطة النول اليدوي أو ما يُعرف بـ"الجاكار" التي صنعها جوزيف جاكارد عام 1804، بمدينة ليون الفرنسية، وهي تطور لصناعة نوع من الأقمشة يُعرف بالديباج أي القماش المنقوش والمزين.
ويصل عدد رسومات البروكار إلى نحو 200 رسمة، بعضها مكوّن من 7 ألوان كثافة الخيوط فيه 150 خيطاً في كل سنتيمتر، أو 5 ألوان، وكثافة الخيوط فيه 100 خيط في كل سنتيمتر.
البروكار يطوف العالم
مع بدايات القرن العشرين بدأت تزدهر صناعة نسيج البروكار في دمشق، وأصبح له زبائن ما بين العرب والأجانب، حتى وصلت شهرته إلى أوروبا، فاهتم المشاهير، باقتناء النسيج الحريري المطرز بالذهب والفضة من دمشق، رغم اختلافهم على اسمه، فنجده في إيطاليا يعرف باسم "بروكاتلو" بينما في أوروبا يُعرف بـ"دامسكو".
علاوةً على ذلك، هناك الكثير ممن لا يعرفون أصل تسمية الحرير الدمشقي بالبروكار، وتنقسم الكلمة إلى قسمين: الأول "برو" بمعنى إبراهيم، والثاني "كار" بمعنى مهنة عريقة باللغة الكردية.
ومن أشهر النقوش التي زينت البروكار نقشت معارك صلاح الدين، والصياد، والفراشة، وزهرة عمر الخيام، ورقص الجواري، وطيور الحب أو العاشق والمعشوق، الذي استخدم في تفصيل فستان زفاف الملكة إليزابيث الثانية.
إليزابيث الثانية تزفّ في فستان طيور الحب
في حوار أجرته مجلة العربي، يحكي حرفي البروكار الدمشقي إبراهيم أيوبي قائلاً إن والده قاسم أيوبي هو من صمم رسمة ونقشة فستان زفاف الملكة إليزابيث الثانية في مصنع كان يعمل فيه، وقد أهدته الحكومة السورية إلى الأمير فيليب دوق أدنبرة والأميرة إليزابيث حينذاك بمناسبة زفافهما عام 1947.
وأوضح أيوبي أن والده هو مَنْ ابتكر الزخارف التي زينت القماش وقد عرفت باسم "نقشة إليزابيث"، ثم أصبحت فيما بعد تُعرف بـ"طيور الحب أو العاشق والمعشوق"، وقد استخدمت فيه خيوط ذهبية عيار 21، حسبما مدون في مجلة الإذاعة الدمشقية التي ما زال يحتفظ بها منذ عام 1954.
نظام الحصص التموينية يتحكم في الزفاف الملكي
رغم أن حفل الزفاف أقيم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بسنوات، فإن نظام الحصص التموينية كان ما زال قائماً في بريطانيا، لذلك عندما علمت الحكومة هناك بخبر زواجها منحتها 200 كوبون إضافي لشراء ما يلزمها لإتمام حفل الزفاف.
ولقد فضلت تصميم فستان الزفاف من البروكار، الذي قدمته سوريا هدية إليها، وهو ما لا يخالف بروتوكولات الزفاف الملكي، بالإضافة إلى شهرته في أوروبا، ودخول خيوط الذهب في نسيجه، ما يمنحه قيمة عالية، بدلاً من الأقمشة الأخرى.
وقد استغرق تصميمه 7 أسابيع، وعملت عليه 350 فتاة تحت يد مصمم الأزياء الملكي السير نورمان هارتنل، والذي استوحى فكرة الفستان من أحد لوحات بوتيتشيلي، كما زين الفستان بـ10 آلاف حبة من اللؤلؤ المستورد من الولايات المتحدة الأميركية، ووصل طول الفستان إلى نحو 4 أمتار.
وخلال فترة تجهيز الفستان، كانت الملكة إليزابيث وبعض أفراد العائلة المالكة، تذهب إلى أستوديو هارتنل الخاص به في 23 شارع بروتون في لندن، لمتابعة ما تم، والذي أخبرها بأن بعض الأميركان استأجروا الشقة المقابلة له للتعرف على شكل الفستان، الذي كان حديث الناس قبل رؤيتهم له.
وقد أقيم حفل الزفاف يوم 20 نوفمبر/تشرين الثاني 1947، وسحرت الأميرة إليزابيث حينذاك أعين الحضور بجمال إطلالتها في فستان الزفاف.
البروكار الدمشقي يسحر عقول المشاهير
استطاع النسيج المطرز أن يحصل لنفسه على مكان بين مقتنيات المشاهير، لذلك نجد أن "البابا يوحنا بولس وبنديكت بالفاتيكان اقتنيا البروكار، كما علقت جدارية كبيرة مساحتها 112 متراً مربعاً من البروكار على جدران قصر الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز بالرياض"، حسبما قال طوني مزنر لصحيفة الشرق الأوسط.
لكن رغم الاهتمام الذي تلقاه قماش البروكار العريق منذ نشأته، فإنه يعاني من الإهمال الشديد، وأصبح يواجه شبه الاندثار، وذلك لصعوبة الحصول على الحرير الطبيعي الذي تضاعف ثمنه، وقلة الزبائن، وتدهور السياحة في سوريا.