يختار الطالب أحمد حامد، بعناية، رغباته في الالتحاق بالكلية التي لطالما حلم بها، بعد أن انتهى من الامتحانات وحصل على مجموع كبير يؤهله إلى تلك الكلية، ولكنه يخشى من أن يغيِّر تنسيق الثانوية العامة 2018 من مصيره إلى وِجهة مغايرة تماماً.
وخاض نحو 580 ألف طالب امتحانات الثانوية هذا العام (2018)، بحسب الأرقام الرسمية. وتنفق الأسر المصرية آلاف الجنيهات على تعليم أبنائها سنوياً؛ أملاً في تمكينهم من الالتحاق بالتعليم الجامعي، وخصوصاً كليات القمة.
حصل على 97٪ وقد لا يتحقق حلمه بدخول الطب
يصنِّف المصريون كلية الهندسة ضمن "كليات القمة"، التي يتطلب الالتحاق بها الحصول على معدلات عالية، وتشمل الطب؛ والصيدلة؛ والاقتصاد والعلوم السياسية؛ والإعلام والألسن؛ إذ يسود اعتقاد بأن خريجي هذه الكليات يحصلون على أفضل فرص للعمل والارتقاء الاجتماعي.
وحصل حامد، ابن مدينة المحلة الكبرى (على بُعد نحو 120 كم شمال القاهرة)، على 396.5 درجة من مجموع درجات 410، بنسبة بلغت 96.7 في الشعبة العلمية، وهو يحاول أن يلحق بإحدى كليات الطب.
التقينا أحمد وهو في طريقه إلى جامعة طنطا (بدلتا النيل) للدخول إلى معمل الحاسب الآلي وتسجيل رغباته إلكترونياً على موقع وزارة التعليم العالي، بمساعدة شقيقه الأكبر الذي التحق بكلية الهندسة قبل عامين.
يتمنى أحمد دخول كلية طب بجامعة طنطا؛ لما لها من سمعة كبيرة وجيدة، بالإضافة إلى قربها من محل سكنه، ولكنه قلِق من ارتفاع المجاميع في هذا العام (2018)، ما قد يرفع "التنسيق" ولا يستطيع تحقيق حلمه.
بنبرة يغلبها الحزن، يقول الشاب الصغير: "للأسف، الامتحانات كانت صعبة، حاولت على قد ما أقدر، بس ده مجموعي في الآخر.. ممكن ميدخلنيش طب/ ومش هقدر أنا وعِيلتي على مصروفات الجامعات الخاصة".
والجامعات الخاصة في مصر مصروفاتها مرتفعة للغاية وتصل لعشرات الآلاف من الجنيهات سنوياً، وهو ما لا تستطيع أغلب الأسر توفيره.
"ربنا يكرم، لو ملحقتش أي كلية طب على مستوى الجمهورية أقدر ألحق طب أسنان أو علاج طبيعي"، يقول أحمد بحسرة، رغم مجموعه الذي يبدو كبيراً، "في الآخر هبقى دكتور زي ما كنت بحلم وأشرّف أبويا وأمي وأرفع راسهم".
"مشكلة أحمد أن مجموعه في آخر المرحلة الأولى، التي كان حدها الأدنى 394 درجة بنسبة 96.1، وده ممكن يقلل فرصه في دخول كلية الطب"، يقول مصطفى، شقيق أحمد، وهما يُدخلان الرغبات على الحاسب الآلي.
شاومينج" "ينصب" على طلاب الثانوية العامة ويعرض امتحان اللغة العربية للعام الماضي"
لكن الحلم تحقق!
وكانت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي أعلنت بدء المرحلة الأولى لطلاب الثانوية العامة، الناجحين، الإثنين 30 يوليو/تموز 2018، بحد أدنى للمرحلة الأولى، للشعبة العلمية 394 درجة فأكثر، أي بنسبة 96.10%، بمجموع عدد طلاب 28001 طالب، والشعبة الهندسية بحد أدنى 385 درجة فأكثر، أي بنسبة 93.90% فأكثر بعدد طلاب 15267، والشعبة الأدبية بحد أدنى 328 درجة فأكثر، أي بنسبة 80.00%، بعدد 83539 طالباً، بإجمالي 126807 طلاب.
أدخل أحمد وشقيقه كل كليات الطب على مستوى الجمهورية أولاً، ثم بعد ذلك كليات الصيدلة القريبة من مدينة المحلة، وأعقبتها كليات طب الأسنان والعلاج الطبيعي، وأخيراً كلية الطب البيطري، التي لا يريد أحمد الالتحاق بها، ولكنه أدخلها حتى يكمل الرغبات المطلوبة للتسجيل.
ومع إعلان نتيجة المرحلة الأولى للتنسيق، دخل أحمد في حالة شديدة من القلق وهو ينتظر تحميل موقع التنسيق على الشبكة العنكبوتية بعد أن أدخل بياناته، ليشاهد نتيجته (كلية طب العلاج الطبيعي-جامعة كفر الشيخ).
فرحة شديدة انتابت أحمد بعد أن عرف كليته، "الحمد لله.. فرج ربنا كبير، فضل ونعمة كتير".
الحقوق كلية قمة.. لكن ليس في مصر
على خلاف أحمد، كانت ريم عليّ تحدد هدفها من قَبل دخول السنة الثالثة من الثانوية العامة، فدراسة القانون مثل أبيها حلمها منذ زمن.
فرغم أن حلمها دخول كلية الحقوق وما يستلزمه من دراسة مواد الشعبة الأدبية، فإنها دخلت الشعبة العلمية، وحصلت على مجموع درجات 366، بنسبة بلغت 89.2%؛ لحبها مادتي الفيزياء والأحياء.
"حقوق إنكليزي ده المستقبل، هحاول أجتهد وأذاكر وأدخل نيابة، ولو ربنا مكتبهاش ليا همسك مكتب المحاماة الخاص بوالدي".
يملك والد ريم مكتباً كبيراً للمحاماة، ورغم أن لديها شقيقين، فإنهما لم يدرسا القانون؛ فالأول دخل كلية الطب، والثاني التحق بالكلية الحربية.
ترى ريم أن الحقوق كلية "مظلومة" في مصر، "الآلاف بيدخلوا الكلية كل سنة؛ بسبب مجموعها الصغير، وفي الآخر بيشتغلوا في مجال تاني أو بيكونوا عاطلين".
وتضيف: "في أوروبا وأميركا، كلية الحقوق بتُصنَّف أنها من كليات القمة، وبتشترط لدخولها مجموع كبير، وكمان مقابلة شخصية صعبة".
تتمنى الشابة الصغير، الحاصلة لتوها على شهادة الثانوية العامة، تغيير نظام التنسيق والقبول للالتحاق بالكليات، "المجموع لوحده مش معيار".
وتقول: "حرام مجهود سنة كاملة يضيع بسبب درجة أو نصف درجة، وممكن تغير مسار الطالب الوظيفي في المستقبل".
ومع ذلك، التعليم لا يخدم السوق!
ويشكو الخبراء من انعزال التعليم في مصر عن سوق العمل، حيث بلغت نسبة البطالة نحو 10.6% في الربع الأول من عام 2018، وفق أرقام الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، في حين بلغت النسبة 27.6% بين الشباب.
فكرة إنشاء مكتب لتنسيق القبول بالكليات كانت في عهد عميد الأدب العربي الراحل طه حسين عندما كان وزيراً للمعارف، بحسب الخبير التربوي والباحث بالمركز القومي للبحوث التربوية الحكومي كمال مغيث.
يقول "مغيث" إن القرار الذي أصدره حسين كان وقت أن كان هناك جامعتان فقط في مصر؛ الأولى فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن) وفاروق (جامعة الإسكندرية حالياً).
ويضيف: "في عام 1961، أصدر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قراراً بمجانية التعليم الجامعي بعد إضافة جامعتي عين شمس وأسيوط، ما استلزم إنشاء مكتب للتنسيق إلى تلك الجامعات، أشبه إلى حد كبير بالموجود حالياً".
وينتقد الخبير التربوي الحكومي فكرة مكتب التنسيق في الوقت الحالي، في ظل ما وصفه بتدهور المنظومة التعليمية بأكملها، "أصبح المجموع الكلي لا يعبر عن كفاءة الطالب".
واقترح "مغيث" تغيير مكتب التنسيق واستبداله بـ3 معايير للالتحاق بالكليات؛ الأول المجموع الكلي، والثاني دراسة مادة مستوى خاص متعلقة بالكلية المراد الالتحاق بها، والثالث امتحان خاص أو مقابلة شخصية تجريها الكلية للطالب.
والكلية الحربية أو كلية الشرطة.. ضمان المستقبل
أما محمد عادل، الذي حصل على مجموع 345 درجة، بنسبة بلغت نحو 84% بالشعبة الأدبية، فلم يحدد كلية بعينها؛ فمجموعه يؤهله لدخول كليات التجارة أو الآداب أو الحقوق، "مش فارقة أي كلية منهم.. في الآخر محصلة بعضها".
يتمنى عادل أن يلتحق بالكلية الحربية أو كلية الشرطة، "وظيفة مضمونة، وبرستيج ووضع اجتماعي محترم، حصانة ومزايا تانية".
من بعد انتهاء امتحانات الثانوية العامة، التحق عادل بأحد مراكز التأهيل العسكري؛ ليكون مؤهلاً لاختبارات الكليات العسكرية.
"بسمع إن الكليات العسكرية بتحتاج واسطة، لكن أنا هعمل اللي عليا وأقدّم ورقي.. يمكن ربنا يكرمني"، يختتم الشاب محمد عادل حديثه.
ويقول خبراء إن التعليم في مصر لا يؤهل بشكل عام لسوق العمل.
ويبلغ حجم القوى العاملة في مصر 29.5 مليون فرد في 2017، مقابل 28.9 في 2016، بزيادة قدرها 1.9%؛ أي ما يعادل 540 ألف عامل جديد.
وتبلغ نسبة البطالة بين الشباب الذكور 20%، و36.5% بين الشباب الإناث.
وقال "مغيث" إن "النظام التعليمي في مصر يختزل التعليم كله، ومستقبل الطلاب في امتحان الثانوية العامة دون أن يحضّرهم على الإطلاق لسوق العمل، ما يزيد الفجوة بين ما يتطلبه سوق العمل والطلاب".