المس الشيطاني هو اعتقاد عتيق بإمكانية تلبس بعض الكائنات الخارقة للطبيعة -التي عادة ما تكون مؤذية- للبشر، عادة ما يشار إليها بالعفاريت أو الشياطين، وتجعل الفرد يتصرف بشكل خارج عن سلوكه المألوف، كأن يتفوه بعبارات كفر وإلحاد، ويتحدث بلغة لم يتعلمها أبداً من قبل، وقد يكشف للعامة أسراراً احتارت لها عقولهم سلفاً، أو يلهمهم المعرفة في أكثر الأمور غموضاً في علوم الفلسفة واللاهوت.
يعتبر علم اللاهوت المسيحي المس الشيطاني ضرباً من الهرطقة؛ حيث كان الناس في العصور الوسطى يشكُّون بأي شخص يتصف بشخصية غريبة، أو يلاحظ عليه سلوك غير معتاد، ويعدونه ملبوساً من قبل الشيطان.
آمنوا حينها بوجود طريقتين تتلبس بها العفاريت البشر، إما أن يمر العفريت مباشرةً إلى داخل جسد المرء، أو أن يقوم عراف أو ساحرة بالتعاون مع الشيطان بإرسال العفريت إلى داخل ضحيته في دهشة وذهول.
مع غياب المعرفة الواسعة التي نملكها الآن في المجال الطبي، أرجعت أسباب بعض الأمراض العقلية وغيرها من الحالات الطبية التي بدت عوارضها غريبة -عجزوا آنذاك عن إيجاد تفسير منطقي لها- للمس الشيطاني وأعمال السحر والشعوذة، دعنا نستعرض منها الآتي.
1- الصرع
في حقيقته هو حالة عصبية يقدر عدد المصابين بها حول العالم بحوالي 65 مليون شخص. تصيب الجهاز العصبي لدى الإنسان، ويتصف بوجود خلل في النشاط الكهربائي بالمخ، يدخل صاحبه في نوبات من التشنجات والإغماء.
ويبدو الشخص مضطرباً مختلاً أثناء النوبة، ثم يفقد وعيه وقدرته على الاستجابة، وقد يصحب ذلك رعشة وتشنجات. السبب الحقيقي لنوبات الصرع لم يتوصل له بعد، إلا أنه يرتبط حدوثها بوجود عامل وراثي بالأسرة أو إصابة سببت تلفاً بالمخ.
وكان مظهر الشخص وهو يرتجف فاقداً السيطرة على جسده، مثيراً لارتياب من يشاهده في تلك العصور؛ مما دفعهم للاعتقاد بكونه يعاني مساً شيطانياً أو ضرباً من السحر.
2- الجُزام
مرض معد تنتج عنه تقرحات جلدية شديدة، وتلف بالأعصاب الطرفية في الذراعين والساقين. البكتيريا المسببة له تدعى "Mycobacterium leprae" اكتشفت عام 1873. تتمثل أعراضه في تقرحات باهتة اللون تسبب تشوهاً شديداً في الجلد، ونتوءات أو كدمات لا يزول أثرها بعد أسابيع أو أشهر. أما عن التلف في الأعصاب فقد يؤدي إلى فقد الإحساس في الذراعين والساقين، وضعف بالعضلات.
وعُرف الجُزام في الحضارات القديمة في مصر والصين والهند، كان الناس يخشونه للغاية ويتجنبون المصابين به خوفاً من العدوى. وقد ظل المصابون به منبوذين في عائلاتهم ومجتمعاتهم، ويتملكهم الشعور بوصمة عار شديدة. لم يكن يعتقد بوجود علاج له، ولم يفهم عن طبيعته سوى كونه يسبب تشوهاً بالغاً، وتستغرق عوارضه مدى طويلاً في الظهور (يتراوح من 6 أشهر 40 عاماً).
بعض الثقافات كانت تصفه باللعنة أو عقاب من الآلهة، تاركين مهمة علاجه للكهنة ورجال الدين لا إلى الأطباء.
3- التسمم بفطر الإرجوت
الإرجوت هو فطر ينمو على نبات الجاودار، وبدرجة أقل شيوعاً على أعشاب أخرى كالقمح. عندما يتناول أحدهم طعاماً ملوثاً بهذا الفطر، تبدأ عوارض تشنجيَّة بالظهور عليه مشابهة لتلك المصاحبة للصرع مثل حدوث تيبُّس عنيف بالعضلات، والقيء، والهلوسة، والتوهم، والإحساس بوجود شيء يزحف على الجلد، وحشد آخر من الأعراض.
في ربيع عام 1692 ميلادياً بدأت عدة محاكمات بقرية سالم (ولاية ماساتشوستس بالولايات المتحدة) ضد جماعة من النساء المحليات، اتهمن بممارسة السحر. حيث زعمت بعض الفتيات إصابتهن بمس شيطاني، وألقين اللوم على أولئك النساء. عقدت على الفور محاكمة خاصة سُمع خلالها أقوال الفتيات وغيرهن من الحالات، وتمت إدانة أول امرأة بممارسة السحر، وإعدامها شنقاً في يونيو/حزيران من نفس العام.
تلتها إدانة 18 امرأة بعدها بنفس التهمة، واتهم أيضاً حوالي 150 رجلاً وطفلاً وامرأة في الشهور اللاحقة، فيما عرف بأكبر عملية تصيد للسحرة في أميركا.
أثبتت بعد ذلك دراسة نشرت في مجلة العلوم عام 1976، أن الأعراض التي عانت منها الفتيات اللاتي ظنن أنهن متلبسات بأرواح شيطانية، كانت مطابقة لأعراض الإصابة بتسمم فطر الإرجوت.
4- التهاب المخ السباتي
يعتقد البعض أن هذه حالة أخرى كانت مفهومة بشكلٍ خاطئ أدت إلى حرق المصابين بها على الأعمدة الخشبية. أمَّا سبب المرض فغير واضح حتى الآن. تتمثل أعراضه في حمَّى شديدة، وصداع، ورؤية مزدوجة، وتأخر في الاستجابة الجسدية والعقلية والشعور بالكسل والنعاس.
في الحالات الحادة يمكن أن يدخل المصابون في حالة غيبوبة. كما يمكن أن يواجهوا ضعفاً في الجزء العلوي من الجسم، وتظهر عليهم حركات غير اعتيادية بالعين، ورعشة وتيبُّس بالرقبة بجانب تغيُّرات سلوكية تشمل الذهان.
5- بعض الأمراض النفسية والعقلية
الهستيريا أول مرض عقلي ينسب للنساء عثر على أول وصف له في ورقة بردي تعود لعام 1900 ق.م في مصر القديمة. تعزو السبب وراء الاضطرابات الهستيرية لحدوث حركات مفاجئة للرحم في جسد المرأة. بينما هو في الواقع مرض نفسي عصبي يتسم باستثارة عاطفية، تصحبها اضطرابات في الوظائف الحسية والحركية والعاطفية ووظائف الأحشاء.
6- انفصام الشخصية
مرض عقلي خطير تظهر أعراضه في سنٍّ مبكرة ( تتراوح بين 16-30 عاماً)، منها سماع أصوات غير موجودة، وتخيل أشخاص خياليين يتوهم الشخص أنهم يحاولون إيذاءه، والسبب وراءه ليس مؤكداً بعد، لكن يعتقد بأن الجينات الوراثية، والبيئة المحيطة، وكيمياء المخ قد تلعب دوراً في ذلك.
7- الاضطراب ثنائي القطب
مرض خطير يعاني المصابون منه من تأرجحات حادَّة في المزاج، لا يقفون على سلم وسط بين الحزن أو الفرح المعتدلين، وهو إما شعور بالحزن شديد يدخلهم في اكتئاب حاد، أو فرح عارم يصل بهم حد الجنون. قد يمضون أسابيع يشعرون فيها أنهم يملكون العالم، ثم ينجرفون عقبها نحو نوبة اكتئاب شديد. تختلف مدة كل حالة مزاجية منهما من شخص لآخر.
آمنت العديد من الحضارات القديمة كما في مصر، والصين، وبابل واليونان بأن الأشخاص الذين تظهر عليهم أعراض هذه الأمراض النفسية تسكنهم أرواحٌ شريرة. وأن الطريق الوحيد لطرد تلك الأرواح، هو إقامة محافل ذات طقوس شعائرية لاستخراج الشياطين منهم.
وقد ظل علم دراسة الشياطين والمتعلقات الخاصة بها تفسيراً قائماً للعديد من الأمراض العقلية في المجتمعات الغربية حتى القرن الثامن عشر الميلادي.