في غرفة ضيقة بأحد مباني القسم الأوروبي من مدينة إسطنبول، اجتمعوا.. 15 شاباً تركوا وراءهم 5 دول عربية ليبدأوا حياة في بلد لا يعرف لغتهم العربية ولكن يتقاطع معها بكلمات قليلة قد لا تكون كافية لخلق محادثة ما ولكنها بداية!
ما الذي جاء بهم؟
الإجابة هي الظروف، فما الذي يمكن أن يدفع طالب طب إلى تعلم اللغة التركية لمجرد تأمين وظيفة عامل في مطعم، أو طالبا آخر يقرر في منتصف رحلته التعليمية أن يواصلها أو يستأنفها بلغة أخرى لم يفكر يوما أن يتعلمها.
ولماذا كان عليهم تعلم اللغة؟
ببساطة لأنك لا تستطيع أن تحيا في دولة مثل تركيا إلا إذا عرفت لغتها، وقتها -ووقتها فقط- يمكن أن تنفتح لك القلوب والعقول وفرص الاستثمار، لأن الأتراك في معظمهم لا يعرفون أي لغة أخرى وقد يجهل كثيرون منهم معاني YES وNO.
من سوريا وليبيا والعراق واليمن ومصر جاء الشباب الخمس عشرة الذين جمعتهم غرفة الدراسة، ومعظمهم يعتبرون أن أفضل استخدام لجواز سفرهم سيكون لمرة واحدة في رحلة بلا عودة بعد أن تفاقمت أوضاع بلادهم، ورأوا في تركيا مكانا بديلا بشرط تعلم اللغة.
من طالب طب إلى عامل مطعم!
تبدو اللغة التركية لمن يحل ضيفا على البلاد لأول مرة حاجزا ضخما يقف بين الزائر وبين أهلها، ولكنها رغم صعوبتها تشكل اليوم تحدياً للعرب بهدف كسر ذلك الحاجز لخلق فرص جديدة لهم في ذلك البلد، يضعون خبراتهم جانباً ويبدأون تعلمها، ومن هؤلاء فراس الذي كان طالباً في كلية الطب هرب من الحرب في بلده سورية وحط رحاله في اسطنبول.
فراس أجبرته التكاليف الباهظة هنا على وضع سنوات دراسته في الطب جانباً، ليعمل في أحد المطاعم السورية بمنطقة "الفاتح" لتحصيل مبلغ من المال يساعده على تحمل تكاليف الإيجار ودروس اللغة التركية.
المعهد الذي يرتاده فراس يفرض عليه حضور أكثر من 8 دورات مكثفة كي يتمكن من استخدام اللغة في الأمور اليومية لأنه كما يقول: "الحياة شاقة من دون اللغة في بلد بلغ عدد اللاجئين السوريين فيها أكثر من مليوني سوري".
747 كلمة مشتركة!
على الرغم أن الطلاب العرب يعتبرون أوفر حظاً من الأجانب ممن يرتادون معاهد تعلم التركية لوجود قرابة 747 كلمة مشتركة مع العربية إلا أن ذلك ليس كافياً ليمكنهم من بناء جملة واحدة فبعض الكلمات تستخدم في غير معناها العربي، والجملة التركية تمضي بعكس اتجاه المنطق بالنسبة للعرب، فالفعل يأتي في آخرها بعد الفاعل والمفعول به. هل تتخيل يوما أن تقول: أحمد أسامة كتابا أهدى؟! والمقصود أن أحمد أهدى أسامة كتابا!
هناك بعض الاكتشافات الطريفة في رحلة التعلم، فبعض الكلمات التركية المعقدة هي في حقيقتها كلمات عربية؛ المطار مثلا يدعى "هڤاليماني" وهي على غرابتها ليست في الحقيقة إلا الكلمتين العربيتين هواء وميناء فهو "الميناء الجوي" أو الهوائي.
المصريون أيضا يكتشفون أن هناك مفردات تركية في كلامهم وبعضها للمفارقة كان الأتراك قد أخذوها أولا من العرب.. الليمان في مصر هو اسم للسجون الكبيرة، وليمان كلمة تركية هي تحوير لكلمة "ميناء"، و"اليمك" ما زال اسما مستخدما في سجون مصر وفي جيشها للدلالة على الطعام، وهي كلمة تركية، هناك أيضا كلمات مثل "أوضة" التي تعني غرفة وجميع الدرجات العسكرية الشائعة في مصر وبلاد عربية أخرى.
وراء كل طالب.. قصة مؤلمة
نعود إلى الطلاب الخمس عشرة وحكاياتهم، من بين هؤلاء أبو بكر وهو ليبي لا زال يواجه صعوبة في تعلّم اللغة التي لم يتوقع أنه سيجبر يوماً على تعلّمها.
المفارقة أن أبو بكر ليس معارضا ليبيا، فقد كان واحدا من هواة الاستقرار الذين أيدوا نظام معمر القذافي ولم يرغبوا في سقوطه.. بعد سنوات من الصراع لم يعد هناك نظام القذافي ولم تعد هناك دولة ولا أمان كما يقول، ويضيف: "قررت الذهاب لأنني لم أعد أشعر بالأمان.. قصفوا منزلي القريب من الجامعة ودمروا كل ذكرياتي وقتلوا أعز أصدقائي، فلماذا أبقى؟!".
خسارة أبو بكر الليبي ليست كبيرة مقارنة بزميله اليمني "محمود" فقد ماتت زوجته وأبناؤه الخمسة وأصبح مرة واحدة جزعا مقطوعا من كل جذوره، تخنقه دموع غزيرة عندما يتذكر ويقول: لا أتعلم اللغة لأن لي طموحا كبيرا.. أنا هنا فقط أحلم بتأسيس حياة "إنسانية" جديدة.
ديانا، مسيحية سورية، هربت هي وزوجها وطفلهما الصغير "جادوا" بعدما قصف بيتهم وتهدم مثل آلاف السوريين، زوجها طبيب أسنان كان دخله جيدا لكنه لن يحصل على فرصة ممارسة المهنة في تركيا، وهي تتعلم اللغة لتتمكن من مساعدته على نفقات المعيشة إذا وجدت وظيفة.
عائشة، كانت طالبة ماجستير في العراق، تم تهجيرها أكثر من مرة، فمع تردي الأوضاع قرروا في البداية الانتقال إلى كردستان الأكثر أمانا لتبقى قريبة من جامعتها لحين تحصيل شهادتها، ولكن ضيق العيش هناك لم يمكنهم من المواصلة فكانت الهجرة الثانية إلى تركيا بعيدا عن الدراسة والأحلام واللغة التي تعرفها.
"إ" من مصر، لا زالت تتردد في التصريح باسمها، طالبة جامعية صغيرة، ولكنها في يوم وليلة كانت مضطرة لترك أهلها وبلدها، لأنها أصبحت بجرّة قلم كما تقول، إرهابية مطلوبة، لمجرد أنها تعارض النظام الحاكم، تقول: "يؤلمني أنني عروس فرت مباشرة بعد خطبتها، يؤلمني الظلم ولكن يؤلمني أكثر غياب النخوة؛ قديما كان هناك ظلم ولكن كان الاعتداء على الفتيات خطا أحمر، أما اليوم فلا".
"إ" تدرس اللغة التركية تسهل لها الحصول عن منحة تتيح لها استئناف دراستها الجامعية وهي ما تتيحه تركيا لكثير من اللاجئين شرط تعلمهم اللغة.
بيزنس تعليم التركية
في ظرف 5 سنوات أصبحت تركيا مقاما لملايين من العرب، ما يعني أن سوقا كبيرة لتعلم اللغة التركية قد تم فتحها، بعض الجامعات الحكومية دخلت على الخط، بمراكز مثل "دلمر" و"تومر"، أحدهما يتبع جامعة إسطنبول والآخر لجامعة أنقرة، هذان هما أغلى المراكز والدفع فيهما باليورو، ولكن المزية أنهما معتمدان حكوميا، ومنهما يستطيع الشباب الحصول على أوراق رسمية تتيح استخراج إقامة "طالب".
هناك أيضا مراكز تتبع بلديات المناطق التركية المختلفة، وهي إما مجانية أو بأسعار رمزية ولكنها غير معتمدة كما أن الاستفادة بها يقتضي الحصول على إقامة أولا، وهناك أخيرا المراكز الخاصة التي تتفاوت أسعارها بشدة، ولكن الحد الأدنى لما يحتاج أن ينفقه المهاجر لتعلم التركية لن يقل عن 2000 ليرة تركية (700 دولار تقريبا) حتى يعرف أساسيات استخدام اللغة في رحلة تعلم لن تستغرق أقل من 6 أشهر.
وعلى مدى الأشهر الأخيرة تمكن كثير من السوريين من تعلم اللغة التركية وبدأوا أيضا في تدريسها للوافدين الجدد، ما يعني أنهم عوضوا ما دفعوه وأصبحت اللغة لهم مصدر رزق أيضا.
هناك أيضا وسائل مجانية لتعلم اللغة، مثل قناة "تركيا جنة الأرض" على يوتيوب التي ارتفعت مشاهداتها بطريقة خرافية خلال العام الماضي، وصفحات على الفيس بوك مثل "تعلم اللغة التركية بسهولة" التي يتابعها أكثر من 130 ألف عربي يقيمون هناك.