منذ القدم والإنسان يحاول جاهداً معرفة أسرار الحياة من حوله، وهذا ما دفعه نحو تحليل الظواهر ودراسة العلاقات فيما بينها بغية الوصول إلى حقائق ينتفع بأثرها وتشبع فضوله المعرفي.
واعتمد في بداية الأمر على حدسه وتأملاته فتوصل إلى فرضيات أو فلسفات يكتنفها الشك والغموض في أحايين كثيرة. ولذلك لا يخلو مجالٌ من مجالات حياتنا إلا وللمعلومة (أو فلنقل الإحصاء) دورٌ بارزٌ فيها، فالإحصاء يُستخدم على نطاق واسع وشامل في الحياة اليومية العادية والرسمية ولو لم ندرك ذلك تماماً.
على سبيل المثال في المجالات التربوية، عند نهاية كل عام دراسي تقوم وزارة التعليم بعمل إحصائية عامة لعدد المدارس الحكومية والمدارس الخاصة، وعدد التلاميذ الذين التحقوا بالتعليم الحكومي، وعدد أولئك الذين تخرجوا من الثانوية العامة وهكذا، كما أنه يُستخدم في المجالات الرياضية، إذ إن لكل مباراة إحصائية خاصة بها، فمثلاً عدد المباريات التي لعبها فريقان منذ تأسيسهما، وعدد ركلات الجزاء التي أهدرها لاعب فريق معين وهكذا.
ويُستخدم الإحصاء في المجالات الطبية وفي الصحة العامة، بل وأهم من ذلك حيث يُستخدم في الدراسات الشرعية والتاريخية، فقد استخدمه المسلمون الأوائل في مسائل كإخراج الزكاة وإعداد الجيوش ونحو ذلك.
والحقيقة أنني في هذه التدوينة لستُ بصدد الحديث عن استخدامات الإحصاء في مجالات الحياة المختلفة، حيث يمكن للقارئ العزيز الرجوع بكل بساطة لبعض الكتب أو المقالات العلمية التي تتحدث عن استخدام الإحصاء بشيء من التعمق وبشكل مستقل لكل مجال على حدة، ولكنني سأركّزُ على ضرورة تبني هذا العلم في المجال العسكري بنوع من الحرفية والإتقان، لاسيما أن منطقتنا العربية تمر بأزمات سياسية وعسكرية.
ولا أخفيكم أنني أشعر بالفائدة والمتعة كمتابع للأخبار اليومية عندما يظهر على شاشة الجزيرة أو العربية محللٌ عسكري يتحدث بلغة الأرقام ويتوقع الأحداث المستقبلية لقضية ما مستنداً لما لديه من معلومات وثقافة إحصائية بالإضافة لخبراته العسكرية. إلا أن حدوث مثل هذا الأمر بشكل مستمر قد يكون من النوادر.
سبق لي شخصياً أن التقيتُ وأنا خارج المملكة بعددٍ لا بأس به من الضباط السعوديين من الذين ابتعثتهم الدولة للحصول على درجات علمية عليا في مجالات العلوم، العامة منها والعسكرية، وقد لفت انتباهي أن أولئك الضباط كانوا على مستوى رفيع من الخبرة العسكرية نظراً لسنوات العمل التي قضوها في أعمالهم المتنوعة عسكرياً، وما رافقها من دورات تدريبية، عكست بشكل أو بآخر اهتماماتهم الكبيرة، وحرصهم على نيل المعلومة، ومواكبة البحث العلمي، والمنافسة في مختلف فروع العلم والمعرفة. وهذا بلا شك يعكس اهتمام الدولة بالجانب الأكاديمي في المجالات العسكرية، والإيمان بتكامل الدورين الأكاديمي والعسكري. إلا أنني لم ألحظ عند هذه الفئة من المبتعثين اهتماماً بالإحصاء وتحليل البيانات يوازي ذلك الاهتمام بالعلوم الأخرى.
وهذه الملاحظة حتى أكون دقيقاً ليست على إطلاقها، فهناك من قد ابتعثته الدولة لدراسة الإحصاء تحديداً، إلا أنهم قلة قليلة جداً، وربما توقف دورهم وإسهامهم المعرفي بمجرد الحصول على الدرجة العلمية أو الانخراط في أعمال عسكرية ميدانية أو إدارية صرفة.
هذه الأيام، لا يختلف اثنان على أن صناع القرار أياً كانوا سياسيين أو عسكريين بحاجة ماسة للبيانات، وبحاجة أمس لمن يحلل تلك البيانات ويفسّرها تفسيراً صحيحاً. لا يستطيع أحدٌ أن ينكر أن التفوق السياسي والعسكري الذي تشهده الدول الغربية لا يعتمد فقط على القوة العسكرية والثروات الاقتصادية أو الهيمنة التكنولوجية بل يتعدى ذلك كله إلى العلو المعرفي والسيطرة المعلوماتية.
في بلدٍ كالولايات المتحدة مثلاً، حيث الاهتمام بثقافة صنع القرار، تجدُ اهتماماً حكومياً كبيراً بعملية جمع البيانات وتنظيمها وتلخيصها واستخلاص النتائج منها واتخاذ القرارات على ضوء مدلولاتها وتفسيراتها، ليس هذا فحسب، بل تجد الاهتمام نفسه وربما أكثر من القطاعات الخاصة ومن دور العلم والمعاهد والمؤسسات التعليمية، دعماً واستثماراً في هذا الجانب.
لا أقول إننا في المنطقة العربية والمملكة تحديداً نجهل أهمية الإحصاء ودوره الأساسي في النهوض والنمو الفكري والاقتصادي، إلا أننا غالباً ما نكسل عن استثمار هذه الأهمية لنحدث بها نقلة نوعية حقيقية في الجوانب الحياتية العلمية منها والتطبيقية.
ولا شك أن هناك أجهزة حكومية في قطاعات كثيرة تقوم بجمع البيانات ووصفها ولكن وصفاً شكلياً بدائياً، وربما كانت إحصاءاتهم وبياناتهم وتقاريرهم تفتقر في كثير من الأحيان للدقة، الأمر الذي قد يتسبب في حدوث إرباك معلوماتي، بل وربما يجعل مجموعة من الباحثين وطلاب العلم وحتى صناع القرار على أعلى مستوياتهم يتجهون لطلب المعلومات الإحصائية من جهات ومؤسسات دولية لها اهتمامات بوضع أو حالة معينة داخل البلاد. فإذا كان هذا هو الحال في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية فكيف به في الأمور العسكرية! بالطبع سيكون الأمر في غاية التعقيد والصعوبة.
وعطفاً على ما سبق، نخلص إلى أن القطاعات العسكرية بحاجة مُلحة لجعل الإحصاء مادة أساسية في دوراتها العلمية والتدريبية، وبحاجة للتعاون مع الأكاديميين في الجامعات والمعاهد لاستثمار الإحصاء وتبني ثقافة امتلاك المعلومة والتفنن في تحليلها، بل هي بحاجة ماسة جداً لاستحداث مراكز خاصة لدعم القرار، تساعد على خلق رؤية واضحة وتساهم في صنع قرارات صحيحة تُبنى على حقائق واقعية وأسس علمية مستندة لآراء وأفكار الخبراء من ذوي الاختصاص.
ولعل من أهم سبل تفعيل دور الإحصاء في المجالات العسكرية نيله بطرق صحيحة، ومن ذلك إنشاء أقسام متخصصة في الإحصاء في الكليات العسكرية، يقوم عليها أساتذة متخصصون ولهم إسهامات بارزة في الأوساط العلمية وخبرات فعلية في التدريس، ومن ذلك أيضاً ابتعاث العسكريين ضباطاً وأفراداً ابتعاثاً داخلياً للجامعات والكليات المحلية، وخارجياً لأرقى الجامعات العالمية بغية دراسة الإحصاء والحصول على المعلومة من منهلها الأصلي وبشكلها الصحيح، وكذلك الحرص على إقامة مؤتمرات وندوات تهتم بالإحصاء في كآفة المجالات العسكرية والأمنية.
في اعتقادي أن المملكة بما لديها من إمكانيات مادية وطاقات بشرية ـ إن هي استثمرت في هذا الجانب ـ فستكون في وقت قياسي مهيأة لامتلاك ثقافة المعلومة، بل والتفنن في تحليلها.
ولا أشك إطلاقاً إن حدث هذا أن تصبح المملكة دولة رائدة في الهيمنة المعلوماتية أكاديمياً وعسكرياً. ويظل الدور دوراً تكاملياً ما بين القطاعات الحكومية والخاصة من جهة، وما بين الأساتذة والمسؤولين من جهة أخرى، في تبني مثل هذه الثقافة وفي احترافية تطبيقها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.