يُعدُّ واحداً من أشهر أطباء النفس في التاريخ، وأكثرهم غرابة، وأبدعهم في الأفكار، قدَّم هذا الطبيب لعلم النفس طريقة لتحليل تصرفات الإنسان، والدخول إلى أعماق الدماغ، والتجول في عالم اللاوعي، وابتكر أداةً لتفسير الأحلام، وعلاجاً علمياً لمعالجة اضطرابات النفس.
العالِم النمساوي سيغموند شلومو فرويد ظنَّ أن هناك ثلاثة أجزاء للدماغ البشري: طبيعتنا الموروثة (أطلق عليها فرويد id)، وعينا (ego)، والانعكاسات الاجتماعية في داخلنا (superego). الطبيعة الموروثة للدماغ هي كل ما تم برمجته من قبل الجينات وورثناه من آبائنا وأمهاتنا.
أما الوعي فهو نحن الذي بداخل دماغنا، والذي هو وسيط ما بين الطبيعة الموروثة والانعكاسات الاجتماعية، وهذه الانعكاسات الاجتماعية هي مبادئ وأخلاقيات وقوانين وأهداف تبنّاها دماغنا بسبب وجودنا داخل مجتمع وعائلة فرضتها علينا (أخلاقيات مثل عدم السرقة، وأن تكون لطيفاً مع الآخرين، وقوانين المدنية التي تمنع القتل، والأهداف السامية مثل تقديم الأفضل للمجتمع).
اعتقد فرويد أن العالم الاجتماعي القائم في يومه (وفي يومنا حتى) هو في تضادّ مع طبيعتنا الموروثة، لدرجة أنه يخلق أمراضاً نفسية وعصبية داخل الأفراد الذين يقاومون من أجل التعبير عن طبيعتهم داخل مجتمع مُكبت لها.
لكن ما هي هذه الطبيعة الموروثة المبرمجة في أدمغتنا؟ ولماذا هي مهمة جداً وأكثر حتى من وعينا ومن مجتمعنا؟ وكيف ننفصل عنها ونخرج منها؟ وما تأثير أجواء المدينة على طبيعة الإنسان؟
طبيعة الإنسان عند الطبيب فرويد
بالنسبة لفرويد تنقسم الطبيعة الوراثية للإنسان إلى قسمين: غريزة الحياة، وغريزة الموت.
تتمثل غريزة الحياة في الأفعال التي تُعزز بقاء الفرد والمجتمع على قيد الحياة. غرائز البقاء مثل التنفس، والأكل، والشعور بالألم عند الجراح، وكذلك غريزة الجنس التي تحفظ جينات الفرد وتُبقي المجتمع حياً.
أما غريزة الموت فهي رغبة الإنسان في الموت، في الفناء، وتتمثل في تصرفات مثل العدوان والتدمير. هذه الغريزة تكون مغلوبة في دماغ أغلبية البشر من قبل غريزة الحياة، لذلك استنتج فرويد أن غالبية الناس لا يقومون بالتعدي على أنفسهم أو الانتحار، وبالرغم من أن هذه الرغبة موجودة داخل الإنسان فإنها ضعيفة لا تؤدي لتدميره، لكنها ما زالت متفشية، وهي موجهة نحو الآخرين بدلاً عن الذات.
هناك رغبة عارمة في داخلنا في الاعتداء على الآخرين وقتلهم، رغبة جامحة في تدمير الكون وأنظمته، رغبة في الفوضى والعشوائية، رغبة في الرجوع إلى ما قبل الولادة.
هذه الغرائز لا تُظهر نفسها لنا بسهولة، ولا تدخل في وعينا، بل هي موجودة في عالم اللاوعي من الدماغ. تتحكم في هدفنا وفلسفتنا في الحياة بشكل كبير، لكن من المستحيل رؤيتها في معظم الأوقات، لأنها مكبوتة (بشكل أو بآخر) من قِبل وعينا ومن قِبل مجتمعنا.
تعريف الاغتراب
يُعرف الاغتراب على أنه حالة خروج الإنسان من أحد الطورين، إما طور الموروث، أو طور المألوف:
طور الموروث يعني خروج الإنسان من طبيعته الموروثة الجينية، مثلاً انعزال الفرد عن المجتمع يُعدُّ اغتراباً عن طبيعة الإنسان الاجتماعية. قد يكون الاغتراب عن الموروث محسوساً أو غير محسوس، أي يمكن للإنسان أن يستشعر أنه خارج عن طبيعته، أو قد لا يستشعر على الإطلاق. ويجدر ذكر أن القصد بالطبيعة الموروثة هو الطبيعة الجسدية والعقلية معاً، وعدم الأكل هو الخروج عن الطبيعة الجسدية (إن افترضنا انعدام الشعور بالجوع)، وانعزال الإنسان عن المجتمع يعتبر خروجاً عن الطبيعة العقلية.
أما طور غير المألوف فهو الخروج عن كل ما تعوّد عليه الإنسان وألفه، نقول مثلاً إن الشخص اغترب عن عادة مجتمعه إذا اعتزل عن التصرف مثله، وهذا يعود بشكل كلي إلى الدماغ والوعي، فالوعي هو الذي ينتج الاغتراب هنا، بدون الوعي لا يمكن لشيء أن يحول ما بين كون الإنسان جزءاً من الطبيعة، وأن الطبيعة جزء منه. خروج الإنسان عن المعلومات المألوفة التي حفظتها الذاكرة وتآلف عليها الوعي هو الذي يجعل الإنسان مغترباً. اغتراب عن المألوف هو اغتراب محسوس بالطبع، أي يمكن للفرد أن يشعر بأن هناك شيئاً ما يجري بشكل غير صحيح.
الربط بين الاغتراب ونظرية فرويد
رأى فرويد أن الإنسان في اغتراب دائم عن طبيعته، اغتراب من طور موروث حصراً، محسوس وغير محسوس، لا يستطيع فيه الفرد التعبير بالكامل عن طبيعته حتى لو تلاشت جميع القيود وتيسّرت السبل لها. هذه الطبيعة البشرية مكبوتة ومضغوطة تحت وزن الوعي (id)، وتحت ثقل القوانين الحضارية، والأخلاقيات الدينية، والمبادئ الاجتماعية التي ينعكس أثرها داخل عقولنا وأدمغتنا لتمنع طبيعتنا الدماغية والجسدية من الظهور مباشرةً. لذلك هي لا تخرج مباشرةً إلا في حالات نادرة، وهي مغلّفة في جميع الأوقات بالمنطق والوعي، حيث تظهر على شكل تصرف آخر (مثل تعدي الطفل على الدمية لإظهار غريزة الموت بدلاً من تعديه على إنسان، وتوجيه العنف والدمار ضد الأشياء الجامدة بدلاً من البشر)، أو تظهر كزلة لسان، أو تظهر هذه الطبائع في الأحلام حين يكون الوعي غائباً.
الصراع من أجل الظهور الذي تتقاتل عليه طبيعتنا الموروثة (id)، مع وعينا (ego) تارةً، ومع انعكاسات بيئتنا ومجتمعنا (superego) تارةً أخرى، هو حربٌ محتومة ولصالح الوعي والمجتمع بدلاً من الطبيعة. ولهذا السبب يكون الإنسان في اغتراب دائم عن طبيعته وبرمجة دماغه التي ورثها وعمل بها لآلاف السنين، ولهذا السبب يشيخ التهور في داخلنا مع تقدمنا في العمر، بمجرد ظهور الوعي داخل دماغ الطفل، يبدأ بكتم صوت الطبيعة الحقيقية أكثر وأكثر، وبمجرد تعوّده وتأقلمه مع بيئته وتبنّي أفكار مجتمعه، سوف تُدفن الطبيعة في أعماق عقله، ولن تظهر إطلاقاً سوى زلة أو في المنام.
لكن من الخطأ الظن أن طبيعتنا جالسة مكتوفة اليدين داخل أدمغتنا، صوت الطبيعة لن يزحزح بسهولة، فهو كالطاقة تماماً كما اعتقد فرويد، لا تفنى، بل تتحول من شكل إلى آخر، لا مفرّ من وجودها، وهي تظهر في ظلال أقوالنا وأفعالنا، تتحكم فينا وفي علاقتنا مع الآخرين، فهي تحيك مستقبلنا بخيوط غريزة الحياة والموت، وتأمل يوماً ما في التحرر منا ومن مجتمعنا، لترجعنا من حالة الاغتراب إلى حالة تآلف تام مع الكون.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.