في عام 2020، أصبح فيروس الكورونا المستجد ركيزة التغيير، فما قبله ليس كما بعده؛ حتى الوقت أصبح مرتبطاً به. إذ حدث شيءٌ ما لطريقة إدراكنا للزمن مع استمرار تفشي فيروس كورونا. فلم يعد الزمن يقاس بعدد الساعات والأيام، بل بعدد الحالات المؤكدة إصابتها بفيروس كورونا (كوفيد-19) وعدد الوفيات.
وبناءً على هذا المقياس، لم يعد التوقيت في مدينة ميلانو الإيطالية متقدماً على التوقيت في ولاية نيويورك الأمريكية بمقدار 5 ساعات، بل بعدة أسابيع.
تلاشت في زمن فيروس الكورونا، الحدود الفاصلة بين اليوم والأسبوع، العطلة ويوم العمل، النهار والليل، الحاضر والماضي القريب. تمتزج الأيام معاً، وتتدافع الأشهر بعضها وراء بعض.
وبينما أصابت تداعيات هذه الجائحة مختلف الدول والأعراق والطبقات الاجتماعية على نحوٍ غير متناسب، فإنَّ تلك التشوهات الزمنية تبدو عالمية بصورة غريبة.
ونقلت مجلة Wired عن الباحث الاقتصادي ديفيد ويسل: "2020 سنة كبيسة فريدة من نوعها، يبلغ فيها عدد أيام شهر فبراير/شباط 29 يوماً وعدد أيام شهر مارس/آذار 300 يوم ويمتد شهر أبريل/نيسان 5 سنوات!".
كيف نقيس الوقت؟
يقاس الزمن (الوقت)، كما تأمَّل معناه الفيلسوف أرسطو، بمدى التغيير. لا يمكن إدراك الزمن بمفرده مثل حاوية توضع الأشياء داخلها، بل يعتمد إحساسنا به على ما يتغير وما يعاد تشكيله وما يبقى على حاله.
ويميل الفلاسفة إلى التفكير في الوقت من حيث الميتافيزيقيا، في حين يُفضّل علماء النفس فهم مسألة الإحساس بالوقت من خلال ربطها بالدماغ.
أما أخصائية علم النفس بجامعة Liverpool John Moores الإنجليزية روث أوغدن، فتقول: "يبدو الوقت كأنّه يتسارع ويتباطأ".
يُركّز عمل روث على سيكولوجية إدراك الإنسان للزمن وكيفية تقديرنا له.
تعرض روث، في مختبرها، مجموعة من الصور المختلفة على عدد من الأشخاص ويُطلب منهم تقدير عدد الثواني التي استغرقها عرض كل صورة.
وتبين النتائج أنَّ "الصورة إذا حفّزت إحساس الخوف والفزع –مثل صورة جثة مشوهة- فسيقولون إنَّها استمرت فترة أطول من صورة أي شيء محايد آخر، مثل صورة قطة صغيرة".
كيف يمر الوقت في زمن فيروس الكورونا؟
في الآونة الأخيرة، وجّهت روث أوغدن اهتمامها إلى دراسة إدراك الزمن في أثناء فترة تفشي وباء.
هل يشعر الناس بأنَّ يوم الإغلاق أطول أم أقصر من المعتاد؟ ماذا عن الأسابيع؟ أطلق مختبرها دراسة استقصائية متواصلة حول العلاقة بين التجارب، التي أُبلغ عنها ذاتياً والمتعلقة بالإحساس بالوقت، وأشياء مثل المزاج والنشاط البدني ومستويات التنشئة الاجتماعية والقلق والاكتئاب.
حتى الآن، ملأ أكثر من 800 شخصٍ نموذج الاستبيان. تقول روث: "لقد ألقيت نظرة خاطفة على البيانات، وما أراه هو أنَّ الشعور بالوقت يختلف حقاً من شخصٍ لآخر. يقول نصف المشاركين إنَّه يمر بسرعة، في حين يشعر النصف الآخر بأنَّه يمر ببطء".
لقد حيّرت هذه المطاطية في إدراك الوقت الفلاسفة آلاف السنين؛ وألهمت الكُتّاب على مدار قرون، واستحوذت مؤخراً على اهتمام علماء النفس مثل روث أوغدن، التي صاغت تجارب لفهم الظروف، التي تؤثر في إحساس الإنسان بالوقت؛ لمعرفة ما إذا كان إحساس الناس المختلف بالوقت يعتمد على حالتهم النفسية والبدنية (مرهقين أم مرتاحين، يراقبون عقارب الساعة أم يركزون على شيء آخر).
السعادة والخوف يشكلان قياساً للزمن
يمضي الوقت كلمح البصر عندما نكون منغمسين بعمق في نشاطٍ ما نستمتع به، مثل عمل مخبوزات أو انهماك كامل في إعداد مشروع.
تشير دراسات أخرى إلى أنَّ الخوف والقلق يساهمان بقوة أيضاً في تشكيل إحساسنا بالوقت.
يقول المُتخصّص في علم الأعصاب المعرفي بمعهد "Duke" لعلوم الدماغ كيفن لابار: "ثمة تشوهات في إدراك الأشخاص للزمن في حال شعروا بتهديد".
في المقابل، يشعر الإنسان بأنَّ الوقت يمر ببطء للغاية في حال كان يعاني مللاً شديداً، عندما يبقى الوضع ساكناً ولا يتغير أي شيء.
ووفقاً لدراسة شملت مجموعة مكوّنة من 110 طلاب جامعيين عوقبوا بأن يضعوا دائرة حول الأعداد الموجودة على مجموعة من الأوراق، فإنَّ الطلاب، الذين عبّروا عن شعورهم بالملل، بالغوا جداً في تقدير الفترة الزمنية التي قضوها في إنجاز المهمة.
الدماغ البشري يحب التجديد
تقيس تلك الدراسات إدراك الوقت من حيث عدد الثواني أو الساعات، لكن مقياس الوباء يمتد إلى أكثر من ذلك، إلى أسابيع وشهور على الأقل.
يشير كيفن لابار إلى أنَّ محاولات فهم كيفية تقديرنا للوقت تثبت أنَّه أمر مراوغ، لاسيما إذا كنت عالقاً في المنزل يوماً بعد يوم.
يقول لابار إنَّ "الدماغ البشري يحب التجديد. يُطلق الدماغ هرمون الدوبامين في كل مرة يحدث فيها شيء جديد. يساعد الدوبامين على تعيين بدء توقيت هذه الأحداث. يُسجّل الدماغ توقيت التجارب الجديدة ويخفيها في الذاكرة، ثم يتذكّرها لاحقاً لتقدير وقت كل تجربة".
يقول لابار: "من دون تجارب وأحداث جديدة، لن يُطلق الدماغ الدوبامين؛ ومن ثم تعجز أنظمة الإدراك الحسي عن ترميز الذكريات".
لذلك تبدو العطلات قصيرة
تطلق كلوديا هاموند، صحفية ومؤلفة كتاب Time Warped: Unlocking the Mysteries of Time Perception، على ذلك اسم "مفارقة العطلة".
أي عندما يذهب الناس لقضاء عطلة، يشعرون بأنَّ الوقت يمر بسرعة كبيرة ولا يصدقون أنَّ أيام العطلة على وشك الانتهاء.
لكن عندما يعودون إلى المنزل، يشعرون كأنَّهم غابوا عن المكان فترة طويلة جداً.
بالنظر إلى أنَّ أيام العطلات غالباً ما تمتلئ بتجارب جديدة بعيدة عن الروتين المعتاد، توفّر مثل هذه المغامرات مجموعة من الذكريات الجديدة، التي بإمكان الدماغ تخزينها، لتكون بمثابة نقاط مرجعية تساعد في تقدير الوقت.
نستطيع تطبيق المنطق نفسه على ما يمكن تسميته "مفارقة الحجر الصحي". قد تشعر بأنَّ أيام الإغلاق التي تقضيها في المنزل طويلة، لكنها لا تضيف إلا القليل إلى إدراكنا، وهو الأمر الذي يجعل شهوراً من الأحداث الروتينية المتكررة تبدو قصيرة للغاية.
في غضون ذلك، قد يجد أولئك الموجودون على الخطوط الأمامية لمواجهة أزمة كورونا أنَّ أيامهم تمضي بسرعة جنونية، لكنهم يشعرون بأنَّ كل شهر يمر أطول من الشهر السابق له، لأنَّ كل ذكرى تتشابه مع التي تليها.
فكلّما ابتعدنا عن الإيقاعات المعتادة لحياتنا اليومية، يصبح إحساسنا بالوقت ضعيفاً، ويمتد قدماً إلى ما لا نهاية، ثم، من دون سابق إنذار، يعود لطبيعته.
وفي ظل حالة عدم اليقين التي نعيشها في جائحة الكورونا، أصبح "الوقت" بمثابة بديل يعبّر عن كل ما لا نستطيع السيطرة عليه.
إنَّه السرعة الفائقة التي تتغير بها الأشياء، والعبء الثقيل لفترة بقاء الوضع ساكناً كما هو عليه، ليجد الناس أنفسهم خائفين من أن يستمر هذا الوضع إلى الأبد، ومن احتمالية انتهائه مبكراً جداً على نحو غير ملائم.