تعد دورة النوم والاستيقاظ أحد أهم السلوكيات البشرية، لدرجة أننا نقضي ثلث حياتنا نائمين، ولا يمكننا أن نحيا دون نوم.
في أثناء النوم، يخزِّن المخ المعلومات ويعالجها، ويتخلص الجسم من السموم ويعالج نفسه، وهو ما يسمح لنا بأداء وظائفنا كما ينبغي عندما نستيقظ.
ولأهميته البالغة، تؤثر قلة النوم لفترات قصيرة في رفاهنا بشكل كبير.
يبدأ معظمنا في التوقف عن أداء وظائفه بشكل جيد بعد ليلة واحدة فقط دون نوم، وبعد ثلاث ليال (من دون نوم) نؤدي مهامنا بأقل بكثير من المستويات العادية.
تقول إحدى الدراسات إنَّه بعد قضاء 17 إلى 19 ساعة دون نوم، قد يصبح مستوى الأداء في المهام المعرفية شبيهاً بتناول كثير من الكحوليات، ويزداد الأمر سوءاً مع مرور مزيد من الوقت.
أطول فترة موثَّقة من دون نوم هي 11 يوماً، وقد نتجت عنها تغييرات إدراكية وسلوكية خطيرة، بالإضافة إلى مشاكل في التركيز والذاكرة قصيرة الأجل والبارانويا والهلوسة.
بينما يدرك العلماء، منذ فترة طويلة، أهمية الحصول على قسط كافٍ من النوم، قد يتم أحياناً إغفال الدور الأساسي الذي يؤديه التعرض للضوء؛ بحسب ما نشره موقع BBC Mundo الإسباني.
الساعة البيولوجية
السبب في أهمية الضوء هو أنه يساعد على ضبط إيقاع ساعتنا البيولوجية (أو النظام الليلي النهاري)، من خلال أجهزة استشعار الضوء داخل العين.
تستشعر أعيننا دورة الضوء والظلام في بيئتنا، وتضبط إيقاع الساعة البيولوجية للجسم بحيث يتزامن اليوم الداخلي والخارجي.
تعتبر هذه العملية مهمة جداً، لدرجة أن الأشخاص الذين يعانون إصابات خطيرة في العين قد يشعرون بخلل في ساعتهم البيولوجية؛ وهو ما يسبب لهم مشاكل في النوم.
من دون الحصول على الضوء، تختل ساعة جسم الإنسان، مضيفةً نحو نصف ساعة إلى دورة الساعات الأربع والعشرين لكل يوم من الظلام.
يعد اختلاف التوقيت، أو اضطراب الرحلات الجوية الطويلة الذي يحدث بسبب السفر مسافات طويلة عبر عديد من المناطق الزمنية، هو المثال الأكثر وضوحاً على التأثير الذي يمكن أن يُحدثه الضوء.
يساعد التعرض للضوء بالمنطقة الزمنية الجديدة في إعادة ضبط ساعتنا البيولوجية على التوقيت المحلي، وإخبارنا بالوقت الصحيح للنوم.
حتى القرن التاسع عشر، كان معظم الناس حول العالم يعملون في أماكن مفتوحة وكانوا يتعرضون للتغيير من النهار إلى الليل.
في العصر الحالي، يفتقد كثير منا هذه الإشارات البيئية في أثناء العمل بالأماكن المغلقة، في حين أن وظائف مثل الزراعة والصيد البحري، على سبيل المثال، تمثل الآن 1% فقط من الوظائف بالمملكة المتحدة.
لقد أصبحنا كائنات محرومة من الضوء، وهو ما يُفضي إلى عواقب بعيدة المدى على نوعية نومنا؛ ومن ثم على رفاهنا.
يختلف القدر الأمثل من شخص إلى آخر، لكننا نعرف أن أجسامنا بحاجة إلى التعرض لضوء ساطع للغاية، لا توفره معظم مصابيح الإضاءة الداخلية.
الاضطراب العاطفي الموسمي (SAD)، هو من أنواع الاكتئاب الذي يؤثر في 2-8% من الأوروبيين، وهو من أكثر الآثار الجانبية المرتبطة بعدم التعرض لأشعة الشمس.
هناك أيضاً عديد من الجوانب الأخرى التي يؤدي فيها نقص الضوء الطبيعي إلى حدوث مشكلات.
ورديات العمل الليلية
رغم أن كثيراً منا لا يحصلون على ما يكفي من الضوء الطبيعي، فإن هذه مشكلة تتجلى بشكل خاص بالنسبة للعاملين في الورديات الليلية؛ إذ يتعين على هؤلاء العمل في وقت تستعد فيه ساعة الجسم البيولوجية للنوم، وهذا يؤدي إلى انخفاض الانتباه والقدرات الإنتاجية.
وعلى الرغم من أنهم قد يحاولون تعويض ذلك بالنوم في أثناء النهار، فإن النوم عادة ما يكون أقصر وأقل جودة، لأنهم ببساطة يعملون عندما يكونون نائمين وينامون عندما يكونون نشطين، ونادراً ما تُعالَج الآثار الصحية السلبية لهذه الجداول الزمنية.
على المدى القصير، يمكن أن يسبب ذلك ردود فعل عاطفية غير طبيعية وقصوراً في معالجة المعلومات بشكل صحيح.
على المدى الطويل، يمكن أن تتأثر الصحة من عدة جوانب بالعمل الليلي، وهو ما قد يقلل من متوسط العمر المتوقع حتى ست سنوات.
ما يصل إلى 97% من العاملين الذين يعملون في الليل لا يستطيعون تلبية متطلبات صاحب العمل، بغضِّ النظر عن عدد السنوات التي اعتادوا فيها العمل في هذه الدوريات الليلية.
ليس بإمكان هؤلاء العاملين تغيير بيولوجيتهم، لأن الضوء الاصطناعي الموجود في مكتب أو مصنع ضعيف جداً مقارنةً بالضوء الطبيعي.
في ظهيرة يوم مشمس، يمكن أن يكون الضوء الطبيعي أكثر إشراقاً بمقدار 250 مرة ضعف ضوء المكتب.
عندما يعود عامل نوبة ليلية إلى المنزل، غالباً ما يتعرض لهذا الضوء الطبيعي الساطع، وهو ما يرسل إشارات إلى ساعته البيولوجية الداخلية بأن الوقت قد حان للاستيقاظ.
في دراسة بجامعة هارفارد، أصبح عمال الدورية الليلية ليليِّين تماماً بعد تعرُّضهم للضوء الساطع بمكان العمل ثم حمايتهم تماماً من الضوء الطبيعي في أثناء النهار.
لكن هذا ليس حلاً عملياً لمعظم الناس.
دُفعة من الضوء الطبيعي
غالباً ما يعاني نزلاء دُور رعاية المسنين قلة ضوء الشمس، لأن الإضاءة الداخلية قد تكون ضعيفة، وفي الوقت نفسه، يقضون ساعات طويلة بعيداً عن الضوء الطبيعي.
كل هذه العوامل تفسر انتشار الشكوى من مشاكل النوم.
في دراسة أُجريت بهولندا تمت زيادة الإضاءة في الأماكن المشتركة بدار لرعاية المسنين، في حين كانت غرف النوم مظلمة قدر الإمكان.
كانت النتيجة تقليل النوم بالنهار وإضفاء الاستقرار عليه في أثناء الليل، وهو ما يحسن القدرة العقلية والشعور بالراحة.
لا يتعلّق الحرمان من الضوء بفقدان الضوء الطبيعي الساطع فحسب؛ بل يتعلق كذلك بتوقيت التعرض للضوء.
ضوء غروب الشمس مثلاً، يؤخر ساعة الجسم البيولوجية، وهو ما يجعلنا نستيقظ في وقت متأخر باليوم التالي، في حين يعمل ضوء الصباح على تقديم الساعة، وهو ما يجعلنا ننهض في وقت مبكر.
عندما نعمل في أماكن مفتوحة، لا تحدث هذه المشكلة، لأننا نتعرض لضوء الشروق والغروب، وكلاهما يلغي تأثير الآخر على الساعة البيولوجية.
لكن في عصرنا هذا، لا يتعرض معظمنا إلا لجزءٍ من دورة شروق الشمس إلى غروبها، خاصةً طلاب الجامعات الذين يميلون إلى بدء اليوم في وقت متأخر من الصباح، ثم يقضون وقتاً أطول بالهواء الطلق في وقت مبكر من المساء.
يعمل ضوء المساء على تأخير ساعة جسمك البيولوجية، وهو ما يعني أنه من المحتمل أن تستيقظ وتذهب إلى الفراش متأخراً. ومما يضاعف من ذلك التغيرات الهرمونية في مرحلة المراهقة والبلوغ المبكر، وهو ما يؤخر ساعة الجسم بنحو ساعتين.
هناك توعية جيدة بالآثار الصحية للتدخين وإدمان الكحول والجنس غير الآمن، ولكن لا شك في أن أهمية النوم والدور الحاسم الذي يؤديه الضوء لا يحظيان بالقدر نفسه من الاهتمام.
يمكن أن يساعد مزيد من البحث المتعمق والوعي الأكبر في هذا المجال، الأشخاص على اتخاذ قرارات واعية حول كيفية تحديد أولويات نومهم، والحصول على قدر كافٍ من ضوء الشمس.
ويمكن أن يؤثر ذلك أيضاً في طريقة تطوُّر سياسات الحكومات والمؤسسات التعليمية وأماكن العمل.
الحد من التعرض للضوء قبل النوم، ومحاولة الحصول على أكبر قدر ممكن من ضوء النهار، خطوتان بسيطتان يمكنهما مساعدة معظم الناس على تنظيم وتحسين نومهم.