لمجرّد أن نستنشق دخاناً من سيارة ما في الشارع، أو سيجارة يشربها أحدهم بجانبنا، نشعر وكأننا تعرّضنا اليوم لكمية ملوّثات مهولة ستؤذي قلبنا، بشرتنا وصحتنا!
كلّ هذا الكلام نقوله عادة ونحن لا نعلم إن كان علمياً صحيحاً أم لا، لكن ماذا إن قلنا لكم إن تلوث الهواء قد يجعلنا أكثر ميلاً لارتكاب الجرائم أيضاً وليس فقط إيذاء صحتنا؟
الهواء الملوث ضار جداً بالصحة
نحن نعلم أن التعرض لمستويات عالية من ملوثات الهواء يزيد من خطر الإصابة بالتهابات الجهاز التنفسي وأمراض القلب والسكتة الدماغية وسرطان الرئة وكذلك الخرف ومرض الزهايمر.
ولكن هناك أدلة متزايدة تشير إلى أن تلوث الهواء لا يؤثر فقط على صحتنا، إنما يؤثر على سلوكنا أيضاً.
في سبعينيات القرن الماضي، تمت إزالة الرصاص من البنزين في الولايات المتحدة الأمريكية استجابةً للمخاوف من أن انبعاثات المركبات يمكن أن تسهم في المشكلات السلوكية وصعوبات التعلم وتخفيض معدل الذكاء بين الأطفال.
على وجه الخصوص، يزيد تعرض الأطفال للرصاص من سمات مثل الاندفاع والعدوان وانخفاض معدل الذكاء والتي يمكن أن تؤثر على السلوك الإجرامي.
ومنذ ذلك الحين، أصبح التخلص من الرصاص مرتبطاً بانخفاض بنسبة 56% في جرائم العنف في التسعينيات.
تلوث الهواء له تأثير سلبي على الدماغ
تشير عدة أبحاث علمية أن تلوث الهواء له تأثير سلبي على الدماغ. إذ تعد الجزيئات الدقيقة من العوامل العصبية المهيجة، مما يقلل من الإنتاجية ويضعف المهارات المعرفية ويشجع السلوك المعادي للمجتمع عند دخول هذه الجزيئات للجسم.
وكما هو الحال مع التلوث الضوضائي، يمكن أن يؤدي الانزعاج الجسدي الناجم عن استنشاق الهواء بأول أكسيد الكربون وأكسيد النيتروز إلى أعمال أكثر عدوانية أيضاً.
أحد الآثار المترتبة على هذا البحث هو أن تلوث الهواء يمكن أن يشكل عاملاً في واحد من أسوأ التعبيرات للدماغ المتعثر: الجريمة العنيفة.
فهل يمكن أن يكون لسوء نوعية الهواء تأثير نفسي عصبي؟
في سياق متصل، تقول ورقة عمل نشرها المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية الأمريكية، نعم: في شيكاغو، المدينة التي تعج بالطرق السريعة الضبابية، يكون لتلوث السيارات تأثير ملموس على النشاط الإجرامي في المدينة.
والدراسات توضح عوامل هذا التأثير
قام إيفان هيرنستادت، الدكتور في مركز جامعة هارفارد للبيئة، وإريك موليغر، أستاذ مساعد في الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا ديفيز، بفحص بيانات من قسم شرطة شيكاغو وشكلت أكثر من مليوني جريمة ارتكبت بين عامي 2001 و2012 لقد ركزوا على النشاط الإجرامي في الأحياء المجاورة للحدود التي تقطع المدينة والتي تعد مصادر رئيسية لتلوث الهواء المحلي.
وقارنوا بيانات الجريمة هذه بقياسات اتجاه الرياح اليومية، المأخوذة من محطات الطقس على طول الطرق السريعة وفي الأحياء نفسها.
ويوضح الباحثون أن عامل اتجاه الرياح مهم لدراسة تأثير تلوث الهواء، لأن التلوث ينتقل من مكان إلى آخر حسب اتجاه الرياح.
كان يمكن للباحثين الحصول على جواب لسؤالهم من خلال النظر إلى الأحياء التي أصبحت ملوثة إلى حد ما بمرور الوقت، ورؤية كيف تتوافق مستويات الجريمة مع هذا الاتجاه.
لكن هذا من شأنه أن يقدم الكثير من العوامل التي كان يتعين عليهم السيطرة عليها، مثل الظروف الاقتصادية المحلية وتأثيرات الطقس.
كيف ترتبط الجريمة باتجاه الريح؟
بدلاً من ذلك، درس الباحثون كيف ترتبط الجريمة باتجاه الريح في أحياء عبر الولايات من بعضها البعض، في نفس اليوم.
يقول هيرنشتات: "إننا نستخدم الحي المجاور كمجموعة مراقبة للطرف الآخر، وهذا يتوقف على الاتجاه الذي تهب فيه الرياح".
كانت معدلات الجريمة بشكل عام، والتلوث المحيط، والنشاط الاقتصادي في الحي، كلها عوامل يمكن أن يعمل الجانب "المعاكس لها" كعنصر تحكم.
ونتيجة لمراقبة المتغيرات وجد الباحثون التالي: في الأيام التي كانوا فيها على الجانب السلبي من الطريق السريع، شهدت الأحياء ما يقرب من 2.2 في المائة من الجرائم العنيفة مثل القتل والاغتصاب والاعتداء والضرب مقارنة بما حدث في أيام الرياح المعاكسة.
بينما لم يكن هناك أي تأثير على معدل جريمة الملكية. إضافة إلى ذلك، إن الزيادة في الجرائم العنيفة كانت مدفوعة في معظمها بالانتقام بسبب الاعتداءات العنيفة، في حين أن الاعتقالات المتعلقة بالاعتداء المشدد تناقصت بالفعل. وهذا يعني أن المجرمين يصبحون أكثر ارتباطاً جسدياً بالضحايا.
يقول هيرنشتات: "نعتقد أن هذا يوحي بفكرة أن الناس أكثر سرعة في الانفعال، من المرجح أن يعبروا خطاً لم يكونوا قد عبروه بطريقة أخرى".
ويحذر من أن هذه النتائج ليست تنبؤية حيث أن تلوث الهواء لا يؤدي بالضرورة إلى المزيد من الجرائم.
ويوضح "أنه تأثير متوسط بمرور الوقت".
هناك أيضاً محاذير حول الدراسة يجب مراعاتها: بيانات الشرطة، على سبيل المثال، لا تعكس سوى الجرائم التي تم الإبلاغ عنها، ويمكن أن تحتوي على معلومات غير دقيقة حول الوقت والمكان. ولا يمكن استقراء النتائج بشكل مباشر إلى بقية البلاد، نظراً لأنها خاصة بالشكل والكثافة لمدينة شيكاغو.
ومع ذلك، فإن الدراسة تقدم لصناع القرار في البلدان مادة دسمة للتفكير.
وماذا عن الخسائر المادية؟
وفي الختام، قام الباحثون بإجراء حساب تقريبي لمقدار تكلفة الجريمة الناجمة عن التلوث على الولايات المتحدة، على افتراض الآثار الإجرامية لمقياس تلوث الهواء مع السكان.
وبإضافة كل الأشياء الملموسة مثل النفقات الطبية، الخسائر النقدية، سرقة الممتلكات أو تلفها، الأرباح المفقودة، حتى القيمة الإحصائية لوكالة حماية البيئة، فإنها تقدر أن البلاد تخسر 100-200 مليون دولار سنوياً للجريمة الناجمة عن التلوث.
للتأثير المتواضع نسبياً على الجريمة (ارتفاع 2.2 في المائة)، فإن التلوث الناجم عن السيارات له تكاليف إجمالية كبيرة. وهذا عدا أمراض الجهاز التنفسي، والتهاب القلب والأوعية الدموية، وجميع النتائج الأخرى على المدى الطويل للدماغ.