"نحن مضطرون لحقنك بهذا الفيروس من أجل إنقاذك"، كلمات يمكن أن يسمعها المرضى قريباً، بفضل اتجاه متنامٍ في عالم الطب يعتمد على علاج السرطان بالفيروسات.
إذ يمكن لبعض الفيروسات أن تقتل السرطان، وأصبح هناك مجال واعد يتوسع في الطب، قائم على علاج السرطان بالفيروسات، حسب تقرير لموقع Livescience الأميركي.
وقد عرف العلماء علاج السرطان بالفيروسات ذلك، منذ أكثر من قرن من الزمان.
بيد أنَّ التقدم في الهندسة الوراثية لم يُساعد في جعل الفيروسات علاجاً ناجعاً للسرطان، إلا في العقود القليلة الماضية.
ويعكف الباحثون الآن في أنحاء مختلفة من العالم على دراسة هذه الكائنات المجهرية قاتلة السرطان، على أمل أن ينتشر علاج السرطان بالفيروسات، ضمن عمليات بحث واسعة عن علاجات مختلفة وغير تقليدية للسرطان.
هكذا تستخدم الفيروسات لعلاج السرطان
تُفضِّل بعض الفيروسات مهاجمة الأنسجة السرطانية بدلاً من الأنسجة السليمة، ويستفيد العلاج بالفيروسات المحللة للورم من هذه الحقيقة.
ولا يقتصر عمل الفيروسات المضادة للسرطان على قتل الخلايا السرطانية، بل تنبه الجهاز المناعي لجسم المصاب أيضاً إلى وجود السرطان.
إذ قال الدكتور أنطونيو شيوكا، كبير جراحي الأعصاب ورئيس قسم جراحة الأعصاب في مستشفى Brigham and Women's Hospital الجامعي بولاية بوسطن الأميركية: "لقد تطوَّرت أجهزتنا المناعية على مرِّ آلاف السنين، لتصبح قادرة على التعرف بشكلٍ جيد للغاية على مسببات الأمراض، ولكنَّها لم تتطور بنفس الدرجة في التعرف على الأورام".
ويدرس شيوكا الفيروسات المحللة للورم، أو الفيروسات التي تصيب الخلايا السرطانية وتقتلها، التي يمكن استخدامها على الأرجح في علاج سرطان الدماغ.
وقال: "الفكرة ببساطة هي إصابة الورم بعدوى فيروسية لتنبيه جهاز المناعة، ليعي حقيقة وجود ورم".
بدايات علاج السرطان بالفيروسات.. إنه قديم ويعود إلى أكثر من قرن من الزمان
وقد بدأ العلماء في إجراء تجاربهم على هذا النوع من العلاج المناعي في أواخر القرن التاسع عشر، ولكن على مرِّ القرن التالي، كان هذا النوع من العلاج يظهر حيناً ويختفي آخر.
وفي أوائل القرن العشرين، اشتهر جراحٌ يُدعى ويليام كولي بمحاولاته علاج السرطان عبر إصابة المرضى بعيِّناتٍ مستخرجة من الأنسجة المصابة.
وأصبح كولي مهووساً بالفكرة، بعد أن قابل رجلاً تضاءل الورم الخبيث الذي كان مصاباً به في مواجهة عدوى بكتيرية حادة، وفقاً لتقريرٍ نُشِر في دورية BMJ Postgraduate Medical. وبدأ كولي يصيب مرضاه بالمنقذ البكتيري -فيروس الحُمرة- ثم طوَّر لقاحاً يحوي نوعين من البكتيريا المعدلة.
وأصبح لقاح Coley's toxins -وهو الاسم الذي أُطلق عليه- علاجاً شائعاً للعديد من أنواع السرطان، ويعمل عبر إصابة المريض بالحمى والارتجاف والالتهاب.
ودعمت العديد من دراسات الحالة فكرة أنَّ الإصابة بمرضٍ ما يمكن أن تقلل السرطان، أو تقضي عليه تماماً، وفقاً لتقريرٍ نُشِر في دورية Molecular Therapy.
ولكن مع ظهور العلاج الإشعاعي والعلاج الكيميائي وغيره من العلاجات المثبطة للمناعة، فقد العلاج بالفيروسات مثل لقاح Coley's toxins شعبيته.
ظهور العلاج بالفيروسات للمرة الثانية بفضل الفئران، ولكنه تحول في بعض الحالات لمرض خطير
تسبَّب تطوير أنظمة زراعة الأنسجة وتجارب السرطان على القوارض في الأربعينات والخمسينات في ظهور أبحاث العلاج بالفيروسات من جديد، وفقاً لتقرير نُشِر في دورية Nature Biotechnology.
إذ عرَّض الأطباء المئات من مرضى السرطان للإصابة بفيروسات النكاف والتهاب الكبد وفيروس غرب النيل في التجارب السريرية.
وتباينت درجات نجاح تجارب علاج السرطان بالفيروسات كثيراً.
إذ تراجعت حدة الأورام في بعض المرضى كثيراً، ممَّا أطال في أعمارهم.
وحارب آخرون الفيروسات بسرعة كبيرة لم تُمكِّنهم من جني فوائدها.
في حين اختفى الورم من مرضى آخرين، لكنَّهم وقعوا في وقتٍ لاحق ضحيةً للفيروس نفسه، وليس السرطان الذي أصيبوا به.
ثم تبين أن فيروسات تفضل الخلايا السرطانية
وبدأ العصر الحديث من العلاج بالفيروسات في الثمانينات من القرن الماضي، وأخذت ظروف البحث في هذا المجال تتحسَّن منذ ذلك الحين.
إذ قال غرانت مكفادين، مدير مركز Biodesign للعلاج المناعي واللقاحات والعلاج بالفيروسات في جامعة ولاية أريزونا الأميركية: "لقد أصبح علم الفيروسات الجزيئي عنصراً هاماً، واكتشف العلماء أن هناك فيروسات معينة يمكن أن تتكاثر تكاثراً أفضل في الخلايا السرطانية مقارنةً بالخلايا العادية".
وأضاف إنَّ الخلايا عندما تُصاب بالسرطان تكتسب خصائص خطرة على حساب الخصائص المفيدة الموجودة في الخلايا السليمة.
وقال مكفادين: "تفقد خلايا السرطان تدريجياً قدرتها على حماية نفسها من العدوى الفيروسية، وهذه هي نقطة الضعف التي تستغلها الفيروسات المحللة للورم".
ويسعى الباحثون الآن بمساعدة الهندسة الوراثية الحديثة إلى بناء أفضل فيروس محلل للورم، ثم تهيئته ليصبح ملائماً لمهاجمة عدوّه السرطاني.
ولكن هناك عقبات لا بد من إزالتها وإلا قد نُصاب بضرر كبير
تقدَّم مجال العلاج بالفيروسات تقدُّماً ملحوظاً في العقود القليلة الماضية، لكنَّ الأبحاث ما زالت تواجه صعوبة.
وقال مكفادين: "يكمُن التحدي في اختيار الفيروس الصحيح، وتحديد كيفية تهيئته ونقله داخل الجسم".
فمن الممكن حقن بعض العلاجات الفيروسية مباشرة في النسيج الذي يُغلِّف الورم، مما يجعل دخوله الجسم سهلاً للغاية.
لكن يصعب الوصول إلى العديد من الأورام السرطانية باستخدام إبرة، أو قد تكون في أماكن متفرقة داخل الجسم.
فهناك احتمال لظهور فيروسات هاربة
وقال مكفادين: "تُعدُّ مشكلة نقل الفيروس داخل الجسم تحدياً كبيراً".
ويمكن أن تتحول الفيروسات المحللة للورم إلى "فيروسات هاربة"، أي فيروسات تتكيف بعد إدخالها الجسم أو تتحد مرةً أخرى مع مسببات الأمراض البشرية الموجودة بالفعل في المريض، وتبدأ في مهاجمة الأنسجة السليمة بشراسة.
وما زال الباحثون يراقبون هذه الفيروسات الهاربة، لكن حتى الآن، تبدو الفيروسات المحللة للورم آمنة، حتى في المرضى الذين يعانون كبت المناعة وفي حيوانات التجارب، وفقاً لتقريرٍ نُشِر في دورية Cell Host Microbe في عام 2014.
ويمكن الآن توجيه الفيروسات المضادة للسرطان لانتقاء الخلايا السرطانية ومهاجمتها، وتجنُّب الأنسجة الطبيعية، وتنبيه الجهاز المناعي المضيف، والتغلُّب على كبت المناعة في البيئة الصغيرة للورم.
غير أنه لا يمكن الاكتفاء بعلاج السرطان بالفيروسات، لكنَّ علاج السرطان بالفيروسات ليس علاجاً متكاملاً.
إذ تُشير الأبحاث إلى أن العلاجات بالفيروسات ستكون مكملاتٍ للعلاج الكيميائي أو العلاج الإشعاعي أو العلاج المناعي.
وقال شويكا: "في التجارب السريرية عموماً، كان نظام العلاج الأنجح هو الجمع بين العلاج بالفيروسات والتخلُّص من المثبطات المناعية".
يعمل علاج التخلُّص من المُثبطات المناعية على جعل الأورام عُرضةً لهجوم الجهاز المناعي، لذلك فإن دمج هذا العلاج بفيروس محلل للأورام يمكن أن يعزز فاعليته تعزيزاً كبيراً.
والصين كان لها السبق في هذا المجال
في عام 2005، أطلقت إدارة الأغذية والأدوية الصينية أول علاج بالفيروسات المحللة للأورام، وهو H101، المعروف تجارياً باسم Oncorine، وهو فيروس مُعدَّل وراثياً يهاجم الخلايا السرطانية انتقائياً ويُستخدم لعلاج سرطان الرأس والرقبة.
في حين أصبح علاج سرطان الجلد القتامي T-VEC، المُصنَّع من فيروس الهربس المعدل، أول علاج فيروسي اعتمدته هيئة الغذاء والدواء الأميركية في عام 2015، واعتمدته أستراليا والاتحاد الأوروبي في العام التالي.
وظهر المزيد من التقارير عن نماذج واعدة للعلاج بالفيروسات في السنوات الأخيرة، وفقاً لمقال نشر العام الجاري في دورية Nature Reviews Clinical Oncology.
ويمكن الآن استخدام فيروسات كانت تشكل خطراً على الإنسان
يمكن الآن تصنيع الفيروسات المضادة للسرطان من فيروسات كانت تُشكِّل خطراً على الإنسان في الماضي، مثل الحصبة، أو من فيروسات غير مسببة للأمراض.
وحتى بعض الفيروسات التي تصيب الحيوانات فقط يمكن استخدامها في العلاج بالفيروسات.
فعلى سبيل المثال، يهدف مكفادين إلى تطوير فيروس يسمى فيروس الورم المخاطي (MYXV)، وُجِد أنه يصيب الأرانب فقط، لاستخدامه في علاج البشر.
ويبحث علماء مجتهدون كذلك عن فيروسات قوية محللة للورم، ويبدو أن مجال العلاج بالفيروسات يتجه نحو الاستمرار في التوسع.