عاشت أوروبا زمناً مديداً من الصراعات والحروب بين القوميات المتناحرة على تشكيل أوروبا الحديثة، ومن ثم انتقل ميدان الصراع هذا إلى خارج أوروبا نفسها، إلى فضاء المستعمرات حول الأرض، من إندونيسيا إلى الأمريكتين.
كان من نتائج هذا الصراع قيام الحربين العالميتين، وعلى أنقاض كلّ هذه الحروب والصراعات قام الاتحاد الأوروبي على أنقاض الدول المتهافتة نحو العظمة وتطوير البنية التحتية وتكوين قوتها العظمى.
وفي خضمّ هذه الحروب الأوروبية وصراعات القارة العجوز تناثرت القوميات الصغيرة التي أصبح لها ملامحها ومميزاتها الخاصة. قوميات ربما لا نعلم عنها نحن العرب كثيراً.
وقد جمعنا لكم في هذا التقرير 5 قوميات أوروبية غير معروفة، منها ما هو ضاربٌ في القدم، ومنها ما تكوَّن على إثر الحركات الانفصالية عن قوى أو دول أكبر.
كورسيكا.. هل كان نابليون بونابرت فرنسياً؟!
تقع جزيرة كورسيكا على بعد 105 أميال من جنوب فرنسا، وعلى بعد 56 ميلاً من شمال غرب إيطاليا، ومدينة أجاكسيو هي عاصمة كورسيكا.
ورغم أنّ كورسيكا لا تزال توصف بشكلٍ شائع على أنها واحدة من 22 منطقة تابعة لفرنسا المتروبولية، فإن وضعها الرسمي قد تغيّر في عام 1991 من "منطقة" إلى مجموعة إقليمية خاصة، تأخذ توصيف "جماعة إقليمية ذات وضع خاص".
ومن المثير للاهتمام أنّ نابليون بونابرت، القائد الفرنسي (الكورسيكي) الذي أقلق العالم، لم يكن فرنسياً تماماً! فقد أصبحت جزيرة كورسيكا -التي تقع بين فرنسا وإيطاليا- تابعةً لفرنسا عام 1769، وهو نفس العام الذي وُلد فيه نابليون بونابرت، وكأنّ القدر قد رتّبها بهذا الشكل، ففي السنة التي ولد فيها القائد العسكري الذي "دوّخ" أوروبا، تنضم الجزيرة لفرنسا لتفتح له بذلك أبواب المجد.
وقد سقطت جزيرة كورسيكا تحت عدّة احتلالات، مثل الاحتلال البريطاني والإيطالي والألماني، لكنّها ظلت أغلب الأوقات أرضاً فرنسية.
واللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية لكورسيكا، ويتحدث بها جميع سكانها تقريباً، كما يستخدم معظمهم أيضاً اللهجة الكورسيكية "كورسو"، التي يمكن تمييزها كلغةٍ مستقلة يتحدث بها أهل الجزيرة.
أما عن الثقافة الشعبية الكورسيكية فتؤدِّي مجموعات في المدن الموسيقى الشعبية التقليدية، بجانب إحياء الحرف اليدوية التقليدية، إضافةً إلى وجود العديد من المتاحف في كورسيكا أيضاً، التي تعكس الخصوصية والنزعة الكورسيكية الخاصة، وتقدمها كقومية مستقلة بثقافتها التي تميزها.
ويلز.. شقيقة إنجلترا المغمورة
لا يعلم الكثيرون أن ويلز وعاصمتها مدينة كارديف كيانٌ ذو سيادة يختلف كثيراً عن إنجلترا، فصحيح أن ويلز هي أحد أهم مكونات "بريطانيا" غير المعروفة، والتي تشكل امتداداً غربياً لإنجلترا، لكنها تحتفظ بجوانب ثقافية تختلف بشكلٍ ملحوظ عن تلك الخاصة بجيرانها الإنجليز.
فإلى جانب اللغة الإنجليزية تمتَّعت ويلز بإحياء اللغة الويلزية القديمة في أواخر القرن العشرين. وبالرغم من أنّ ويلز مكوِّن رئيسي لبريطانيا، فإن الحكومة البريطانية قدمت في عام 1997 بدعمٍ من الناخبين الويلزيين، قدراً من الاستقلالية لويلز من خلال إنشاء الجمعية الويلزية، التي تولت سلطة اتخاذ القرار في معظم الأمور الويلزية المحلية.
وفي عام 1993 صدر قانون اللغة الويلزية؛ الذي أرسى المساواة بين اللغة الويلزية واللغة الإنجليزية داخل ويلز.
كما أُنشئ مجلس اللغة الويلزية لتعزيز وتسهيل استخدام اللغة الويلزية، ووضع معايير لاستخدام اللغة الويلزية من قِبل الهيئات العامة، ومنذ عام 2012 أصبح لدى ويلز مفوَّض عن اللغة الويلزية، ليتابع رسوخ اللغة في المؤسسات والهيئات الرسمية والعامة.
فعلى الرغم من اتحاد ويلز سياسياً وإدارياً واقتصادياً مع إنجلترا منذ قانون الاتحاد لعام 1536، فقد حافظت ويلز على هوية ثقافية مستقلة، وحافظت عليها وطوّرتها إلى حد كبير.
ويعتبر التفاعل التاريخي بين العناصر الإنجليزية والويلزية -الموحدة أحياناً والمستقلة أحياناً، والمتنازعة أحياناً أخرى- هو ما يميز الحياة الثقافية المعاصرة في ويلز. فلقد ظهر تصور أكثر تميزاً للهوية الويلزية في العقود الأخيرة من القرن العشرين.
يمكن وصف ويلز بأنها تمتلك منطقة ريفية تتحدث اللغة الويلزية من الشمال والغرب، وتتحدث اللغة الإنجليزية في المناطق الحَضَرِية والصناعية في الجنوب والشرق. ولطالما اعتبرت المناطق الناطقة باللغة الويلزية نفسها ويلزية ثقافياً وليست بريطانية.
ومن ناحية أخرى ، فقد رفضت المناطق الناطقة باللغة الإنجليزية إلى حد كبير تعريفات الهوية الويلزية، التي اعتقدوا أنها متأثرة بشكلٍ وثيق باللغة الويلزية. وبحلول أوائل القرن الحادي والعشرين بدأ الانقسام بالزوال، مع ترسخ شعور أوسع بالهوية الويلزية الشاملة في أغلب أنحاء البلاد.
الفلامنك عاصمة الاتحاد الأوروبي بين قوميتين
ثقافياً، تُعد بلجيكا وعاصمتها بروكسل -عاصمة الاتحاد الأوروبي- منقسمة بين شعبٍ يتحدث الفرنسية في الجنوب، يُطلق عليه مجتمع والون (حوالي ثلث إجمالي السكان)، والفلامنك وهم أشخاص يتحدثون الفلمنكية والتي تشبه اللغة الهولندية، ويتركّزون في المقاطعات الشمالية والشرقية والتي تدعى بالفلاندرز.
وعلى الرغم من أن الفلمنكيين يشكِّلون الأغلبية من الناحية العددية (ما يقرب من 58% من البلجيكيين)، فإن الدستور يعطي المساواة بين المتحدثين بالفرنسية في عدد من المناصب الوزارية، مع وجوب تحقق الأغلبية لتغيير أي قوانين دستورية، وبالتالي الحفاظ على مصالح المجتمعين.
ومع ذلك، لا يتم توفير التمثيل المضمون للمتحدثين الفلمنكيين في منطقة العاصمة بروكسل، حيث يشكلون حوالي 20% من السكان، ويهيمن المتحدثون بالفرنسية على معظم مقاطعات العاصمة بروكسل.
ومع استمرار ازدهار الفلمنكيين بالمقارنة مع الذين يتحدثون الفرنسية، يأمل القادة الفلمنكيون في أن تصبح الفلمنكية اللغة الرئيسية لبلجيكا؛ لذا دأبت الحكومة الفلمنكية على تعليم اللغة الفلمنكية، وكذلك فإن السلطات الفرنسية قد بدأت في تعليم اللغة الفلمنكية بسبب الأعداد المتزايدة من الفرنسيين الذين يتنقلون يومياً إلى العمل في مقاطعات الفلامنك، حيث تفتقر العديد من الصناعات إلى العمال المهرة.
الغيلية.. والانفصال عن بريطانيا
استكمالاً لباقي مناطق ومكونات المملكة المتحدة تأتي اسكتلندا كقومية مختلفة عن الإنجليز، والتي لا تزال من حينٍ لآخر تطرح فكرة الانفصال والاستقلال عن بريطانيا.
تطورت اللغة الغيلية بحلول القرن الثالث عشر، واستُخدمت لغة أدبية شائعة في أيرلندا واسكتلندا حتى القرن السابع عشر. ولكن بحلول ذلك الوقت، تطورت اللغة الغيلية الاسكتلندية المنطوقة بما يكفي لتكون لغة منفصلة عن اللغة الأيرلندية، وبدأت المخطوطات الاسكتلندية الغيلية في الظهور منذ القرن السادس عشر، وطُبع أول كتاب بها، وهو كتاب جون كارسويل، الذي نُشر في إدنبرة عام 1567.
وعلى الرغم من الزيادة في إصدار الأعمال باللغة الغيلية، خاصة بعد إنشاء البرلمان الاسكتلندي في عام 1999، أشار تعداد عام 2001 إلى أن أقل من 60 ألفاً فقط مَن يتحدثون هذه اللغة، من إجمالي 5 ملايين اسكتلندي.
مع ذلك هناك دائماً دعواتٌ وتحركات لإحياء اللغة الغيلية في النظام التعليمي الاسكتلندي، كما تتوفر وسائل الإعلام الاسكتلندية الغيلية في جميع المناطق التي يتم فيها التحدث باللغة، وهو ما يشجع حركة الانفصال عن بريطانيا والاعتزاز بالثقافة الغيلية الاسكتلندية.
غاليسيا.. المجتمع المستقل الذي أنجب فرانكوا ليضطهده
تشمل غاليسيا في إسبانيا المقاطعات الشمالية الغربية "لوغو وآكورونيا بونتيفيدرا وأورينس"، وهي تشكل جميعاً مملكة غاليسيا القديمة.
يحد غاليسيا من الشمال والغرب المحيط الأطلسي، ومن الشرق مجتمعات أستورياس وقشتالة وليون المتمتعة بالحكم الذاتي، ومن الجنوب البرتغال.
ففي عام 1936 تلقى استفتاء قانون غاليسيا للحكم الذاتي دعماً ساحقاً، لكن على الرغم من أن الدكتاتور فرانسيسكو فرانكو غالسيٌّ، فإنه أبطل الاستفتاء وقمع تحركات المنطقة نحو الاستقلال السياسي والثقافي، لكن في 6 أبريل/نيسان 1981، تأسس مجتمع غاليسيا المتمتع بالحكم الذاتي بموجب قانون للحكم الذاتي.
يوجد في غاليسيا برلمان خاص بها، كما صُنفت العاصمة سانتياغو دي كومبوستيلا موقعاً للتراث العالمي لليونسكو في عام 1985. ومنذ نهاية القرن العشرين كان هناك نمو تدريجي ومستمر في نشر النصوص الجاليكية، وإنتاج أفلام باللغة الجاليكية، كما تحتوي بعض الصحف الصادرة باللغة الإسبانية على أقسام باللغة الجاليكية، وهناك محطات إذاعية وتلفزيونية باللغة الجاليكية أيضاً.
من الجدير بالذكر، أن شكيب أرسلان في كتابه "تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط" كتب عن قوم الجلالقة -شعب غاليسيا القديم- والذين يكوِّنون قومية مختلفة عن باقي شعب إسبانيا، مبيناً عاداتهم وتقاليدهم، والذي وصفهم بـ"الأكثر شدة من الفرنج".
أما عن اللغة الجاليكية، جاليجو، فيوجد بينها وبين اللغة البرتغالية العديد من أوجه التشابه. يتحدث الجاليكية حوالي 4 ملايين شخص باعتبارها لغة أم لمعظمهم في منطقة غاليسيا المستقلة بإسبانيا -حيث يتحدث 90 % من السكان اللغة الجاليكية- كما يتحدثها أيضاً السكان في المناطق المجاورة لغاليسا في البرتغال.