حقيبتي الصغيرة، لملمت فيها ما تبقى من ذكريات بقيت في الماضي، بعض الصور والرسائل، وحملتها بك، كم تمنيت لو كنت مثلها مجرد ذكرى تحمل في حقيبةِ سفرٍ يتركها صاحبها وتضيع للأبد، ثم تُنسى وكأنها لم تكن.
علمت بأن رحلتنا ستكون ذهاباً بلا عودة حين رحلنا، أيقنت وقتها أنه لم يعد لي وطن ثابت وأن الغربة ستظل عنواني للأبد، لاجئة في بلادٍ منحتني التعليم والمنزل ورفاهيات أخرى أكاد أُحسد عليها، تخصصت في المجال الذي اخترته بإرادتي وصرت أدرس ما أحب، ولكن في المقابل أقضي ليل نهار في الجامعة حتى أكاد أنسى أن لي عائلة وبيتاً وحياة، حياة كباقي تلك الفتيات في عمري، شُغِلتُ بأوراقها الحكومية التي لا تنتهي، عن دفع تأمين لمستقبلي الدراسي والصحي والمهني، فكم من رائع أن يؤمن الإنسان مستقبله، لكن، أي مستقبل هذا الذي أؤمنه؟!، لا أدري، ولا أدري إن كنت سأقضي حياتي مشردة خارج وطني أم سأعود يوماً، وهل سيعود وطني بخير؟
في الغربة نحن لا نمتلك شيئاً، الأشياء هى التي تمتلكنا.
اليوم أتمم عامي العشرين، خمس سنوات في الغربة، لا أدري كيف ومتى مرت، تغيرت بمثابة مائة وثمانين درجة، حتى ملامح وجهي كلما نظرت إلى المرآة لا أكاد أعرفها، أهذه حقاً أنا؟، ابنة الخامسة عشرة التي لا تفقه شيئاً عن هذا العالم وأقصى طموحاتها إنهاء دراستها ولا تدري بعد أي مجال دراسة تريد، ها هى الآن أصبحت ابنة العشرين، ولكن بمقاييسي، عمري فقط خمس سنوات.
لا أنكر لها فضلها الكبير، علمتني أن أفكر في أي اتجاه أضع قدمي، وبناء عليه أحدد وفق القدر مصيري وأبدأُ الرحلة، أنت هنا ليس أمامك سوى طريقين لتسلكهما، وحدك من تختار ووحدك من تقرر، فإما أن تتمسك بحبل عقيدتك وإيمانك، وإما ان تفلته فينتهي الأمر.
علمتني تحمل المسؤولية وكيف أركز على أهدافي وأبتعد عن الملهيات والمظاهر الخداعة لأصل إلى مبتغاي، أصبحت مستقلة إلى الحد الذي لم أعد أنتظر فيه المساعدة أو العون من أحد، حتى نظرتي للارتباط والزواج، تغيرت رؤيتي لكل ما حولي، لم أعد كما كنت، أصبحت أنظر للعالم بعين واسعة، فكلما ابتعدتَ ترى الأشياء بصورتها الحقيقية وأكثر وضوحاً.
تعلمت ألا أتعلق بأحد في الغربة فالجميع سيرحل يوماً ما لا أحد يبقى للنهاية، أو ربما أنا الراحلة، فأنا من تعودت على الرحيل منذ أن تركت وطني في أول مرة ورحلت فصرت أحسب حساب ذلك، وأصنع مسافة آمنة بيني وبين من حولي أُفتَقدُ فيها إن رحلِتُ ولا أنكسر إن رَحَلوا تجنباً لخيبات الأمل، فكلنا يا صديقي عابرون في هذه الدنيا، نسرق من هنا ومن هنا، بعض الضحكات والذكريات، ننسج بعض العلاقات بطريق القدر، نعانق الأشخاص عناقاً عابراً، نستريح قليلاً ثم ننهض لِنُكمل، وفي النهاية سنصل بمفردنا، وكأننا في سباق مع الزمن.
قررت كسر الحواجز والحِجج أو ألا أستسلم للغرق مهما علتِ الأمواج، واجهت كل مخاوفي، فالمواجهة أفضل وسيلة للتغلب عليها، الخوف يولد العجز، ونحن إن أُعجِزنا لن نكمل الطريق، ستظل الخسارة أكبر ألماً، نعم سنفقد الكثير ونتألم أكثر، لكن علينا أن نجد طريقاً للنجاة، فالضعفاء لا يوجد لهم مكان في هذا العالم؛ لذلك يجب علينا أن نكون أقوياء.
أعلنت الحرب على كل ما سيعيق طريقي وقررت السير فيه بمفردي مهما طال، فصحة الاتجاه أهم من سرعة السير فيه، تعلمت السير من جديد وتعهدت على نفسي ألا أسقط أبداً مهما تعثرت قدماي، رغماً عن طول الطريق وإرهاقى، رغم خذلاني وافتقادي، ورغم الحنين ورغم كل شيء.
في كثير من الأحيان ينتابني شعور بالثقل وكأن هذا الكون حملٌ على روحي أود إزاحته، لكني لست بهذه القوة لأزيحه بمفردي ولا أنتظر يداً تساعدني في هذه المهمة، لم أعد أكترث بأمر البشر، لم أعد أثق بأحد، استنفدتُ كل طاقتي في القتال من أجل أشخاص لم يكونوا يوماً جديرين بهذه الصداقة أو هذا الحب.
أعلم أن رحلتي ستطول، وأن هذه فقط البداية، وكأني خلقت لهذا السفر وهذه المسافات اللعينة، لكني لم أنسَ يوماً العهد الذي عهدته على نفسي، سأظل ثابتة الخطى، وفي طريقي سأبحث عن هذا الشيء التائه مني والذي لم أعثر عليه بعد، أعلم أنه يبحث بدوره عني فهو تائه مثلي وحتماً سنلتقي، سأسلك طرقاً جديدة وأتحرر من قيود الجهل، لتشهد الجروح التي على قدمي أني يوماً وطئت هذه الطرقات.
وفي نهاية المطاف، سأتذكر كل ما مررت به وأبتسم..
نحن خلقنا في هذه الأرض لنكون غرباء، في أوطاننا أو خارجها كلاهما غربة في سبيل الله، والانتماء ليس لأرضٍ، فالأرض كلها لله إنما الانتماء للدين، فطوبى للغرباء.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.