طبقًا لبيانات الأمم المتحدة فقد تسببت جائحة كورونا في انتشار أكبر اضطراب في أنظمة التعليم في التاريخ، التي أثرت على ما يقرب من 1.6 مليار متعلم في أكثر من 190 دولة. فمع إغلاق المدارس والجامعات وغيرها من الوحدات التعليمية خاصة في الدول النامية كما في أغلب دول العالم العربي، أدى ذلك إلى تفاقم النظام التعليمي المتضرر في الأصل من المنهجيات التعليمية التي طبقت قبل الوباء على مدار عقود.
وقد أدّى التعطُّل بسبب كورونا إلى انتشار التعلم عبر الإنترنت أكثر من ذي قبل، وانتقال المنصات التعليمية من الحرم الجامعي والمدارس إلى المنصات التعليمية الأونلاين.
كل هذا قد يبشّر ويعجّل بعصرٍ جديد لشكل من أشكال التعليم، قد تنخفض فيه قيمة الدراسة وجهاً لوجه إلى أشكال جديدة من التعلم وتغيُّر جذري للنظر إلى أهمية الشهادة العلمية الممنوحة بطريقة تقليدية، والبدائل المطروحة التي بدأت في الظهور مؤخراً باعتبارها ثقافة جديدة.
ومن خلال هذا التقرير سنناقش بعضاً من أهم العيوب والمميزات لهذه الطفرة التي نشهدها، كما نرصد بعض أشكالها التي بدأت في الانتشار كثقافة، خصوصاً بين الشباب الباحث عن عمل والمتشوّق للحصول على شهادات مرموقة في تخصصاته أو خارجها.
التعلم عبر الإنترنت مقابل التعلم التقليدي
منذ ظهور التعلم عبر الإنترنت، دار نقاشٌ حول ما إذا كانت الفصول الدراسية عبر الإنترنت أفضل من الفصول التقليدية.
كانت هناك آراء ومدارس متنافسة لكلٍ منها حجج وبراهين. فقد يكون التعلُّم عن بعد هو الأنسب في الكليّات والجامعات. وطبقاً لصحيفة فايننشال ريفيو فإن ثلاثة أرباع طلاب الدراسات العليا الذين درسوا في المنزل أثناء الوباء يعتقدون أن التعلم عبر الإنترنت يساوي أو أفضل من التعلُّم وجهاً لوجه.
ويجادل مؤيدو التعليم عن بعد بأنّه يتيح للطلاب موازنة التزاماتهم الأخرى بشكلٍ أكثر فاعلية من التعلم التقليدي، على الأقل في حالة كونهم متعلِّمين بالغين أو طلاباً مسافرين أو طلاباً بدوامٍ جزئي، إذ إنهم
يعتقدون أنّ راحة التعلُّم عن بعد أفضل من تكاليف وصعوبة التعلم التقليدي.
مع ذلك، فإن التعلُّم عبر الإنترنت له مزايا وعيوب. فمتى يكون التعلم عبر الإنترنت أكثر ملاءمة من التعليم التقليدي؟
ما هو التعلم عبر الإنترنت؟
يقول تود زيبر، وهو المدير التنفيذي لشركة التعلم المنزلي، وهي شركة أمريكية تساعد الجامعات في بناء برامج عبر الإنترنت: التعليم العالي لا يتطوَّر بالسرعة التي تتطور بها الصناعات الأخرى. إنه يتحرَّك مثل ناقلة عملاقة، وسوف يستغرق وقتاً.
ويطرح زيبر تساؤلاً مهماً وفق هذه المعطيات: هل التكلفة الباهظة للجامعات التقليدية إلى جانب سوق العمل سريع التغير ونمو التعليم عبر الإنترنت والتعلم القائم على المهارات لا الشهادات، يطرح كل هذا التساؤل التالي: هل تستحق الجامعات التقليدية؟ ولهذا يطرح زيبر وشركته نماذج مختلفة من التعلُّم الذي لا يعتمد على الجامعات.
كان كلام زيبر هذا في عام 2015، وقد طرقت جائحة كورونا أبواب العالم عام 2020 بعد خمس سنوات فقط من كلام زيبر لتجعل الاعتماد على التعلم عبر الإنترنت- والذي كان يبدو بعيد المنال حينها- أمراً واقعاً في كل دول العالم تقريباً.
وقد عزز كورونا طرق التعليم عبر الإنترنت ومن أهمها مساقات الإنترنت المفتوحة والمعروفة اختصاراً
بـ Moocs، وهي دوراتٌ تعليمية عن بُعد تديرها العديد من الجامعات في جميع أنحاء العالم عبر الإنترنت. عادة، تكون مفتوحة لأي شخص يقوم بالتسجيل، وتقبل عدداً لا نهائياً من المتعلمين.
تتميز هذه الطريقة بأنها تُمكِّن المتعلِّمين من دراسة أي موضوع تقريباً، كما تقدِّم العشرات من الجامعات الشهيرة في جميع أنحاء العالم منصات خاصة بالمساقات التعليمية، مثل منصة edx التي أُنشئت من قبل جامعة هارفارد وMIT الأمريكيتين.
تمنح المساقات التعليمية الطلاب خيار دراسة موضوعٍ ما بعمقٍ دون القيود الجامعية التقليدية، ويمكن أن يكون هؤلاء الطلاب في أي مكان في العالم حيث إن جميع الموارد متوفرة عبر الإنترنت ولا تتطلب مؤهلات سابقة كثيرة مثل التعليم التقليدي.
ويمكن للطلاب ببساطة متابعة الدورة بالوتيرة التي تناسبهم، مع أخذ الوقت الذي يحتاجون إليه. ومع ذلك، فإنّ معظم الدورات الضخمة على شبكة الإنترنت متاحة لفترة زمنية محدودة، لذا في معظم الحالات، لن تكون المحاضرات والندوات عبر الإنترنت متاحة لأكثر من عامٍ واحد.
شكلٌ آخر من التعلُّم
بالعودة لزيبر، يذكر أن معسكرات التعلُّم والمعسكرات الأكاديمية ومعسكرات البرمجة والمعسكرات التعليمية الأخرى وما يسمى بدرجات النانو- والتي يحصل فيها المتعلم على دبلومة مصغرة في تخصص دقيق يصبح بعده مزاولًا لهذا التخصص – أصبحت وسيلة لتعليم المهارات بسرعة.
وتقدم برامج "درجات النانو" مثل Code Louisville وهي مبادرة لتعلم لغات البرمجة، طريقة لتعلم الأدوات التي يحتاجها الطلاب والموظفون بسرعة لسد حاجاتهم لوظائف أو مشاريع محددة، وهو ما أصبح سمة سائدة في عصر كورونا.
كما يتميّز عصرنا بلا شكّ بأنه عصر شروحات اليوتيوب التعليمية التي أصبحت منتشرة بشكلٍ واسع، إذ يحقق المحتوى التعليمي وحده نصف إجمالي المشاهدات على يوتيوب. وبالطبع يجب علينا ألا نخلط بين يوتيوب باعتباره مشروعاً تجارياً وبين ما نتحدث عنه هنا. لكننا فقط نثبت نقطة فاعلية التعليم عن بعد قبل أن نستشهد بهذا الاستطلاع الذي أجراه مركز بيو عام 2018.
كانت نتيجة الاستطلاع أن ما يقرب من نصف مستخدمي يوتيوب يقولون إن يوتيوب أصبح مهم جداً لمساعدتهم في معرفة كيفية القيام بأشياء لم يفعلوها من قبل. ويقول واحد من كل خمسة من مستخدمي يوتيوب إنه أصبح مهم جداً لمساعدتهم على فهم الأحداث التي تحدث في العالم.
ووفقاً لبعض المتحمسين للتعليم عبر الإنترنت، فربما تساهم هذه الطرق بشكلٍ غير مباشر في إنهاء عصر "الشهادة التعليمية" كما نعرفه، ففي الوقت الذي أصبح فيه المطورون والمبرمجون بتخصصاتهم المختلفة أحد أصحاب أكبر الرواتب في العالم ومن بين المهن الأكثر انتشاراً والذين يعتمدون بشكل كبير على المساقات عبر الإنترنت، انتشرت معهم ثقافة "عدم جدوى الشهادة التعليمية التقليدية"، ورسوخ التجربة وتنفيذ المشاريع كأولوية على الشهادة ودليل على المهارة في أي تخصص كان.
ولكن، لكلّ شيء سلبيات كما له إيجابيات
توفر الفصول الدراسية عبر الإنترنت الوقت للطلاب لأنه يمكنهم ترتيب جدولهم اليومي بشكلٍ مرن. ويمكن للطلاب التقدُّم بالسرعة التي تناسبهم ومن أماكن إقامتهم، كما أن لديهم المرونة في ضبط روتينهم اليومي وتوفير جو تعليمي شخصي.
يتوفر أيضاً الكثير من الوقت بسبب عدم إضاعة الوقت في التنقُّل، كما تتوفر مصاريف السكن الطلابي في حالة الدراسة بعيداً عن المنزل، ومصاريف الكتب وما إلى غير ذلك من احتياجات أساسية في العملية التعليمية التقليدية.
وبجانب المرونة في الوقت، هناك أيضاً مرونة في المادة المدروسة، إذ يمكن للطلاب في كثيرٍ من الحالات تجربة الدورات الدراسية المخصصة وفقاً لأسلوب التعلم أو احتياجاتهم- وهذا ينطبق بشكلٍ خاص على المدارس الافتراضية الجامعية- وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن الدورات التدريبية عبر الإنترنت تتيح للطلاب الخجولين فرصة المشاركة في مناقشات الفصل بسهولة أكبر من الدورات الدراسية وجهاً لوجه.
يمكن أن يكون التعلُّم عبر الإنترنت ضرورياً أيضاً للعديد من البالغين. بعض الناس لم ينتهوا من المدرسة الثانوية مطلقاً ويريدون الحصول على دبلوم فعلي دون الحاجة إلى العودة إلى الفصل الدراسي لأنهم يعملون بدوامٍ كامل. طبعاً تختلف نسبة هذه الشريحة من بلدٍ لآخر، فربما هذه الشريحة ليست ذات نسبة كبيرة في مجتمعاتنا العربية.
كما يقدم التعلم عبر الإنترنت مجموعة متنوعة من الخيارات بغض النظر عمّا يدرسه الطلاب، يمكنهم العثور على الدورات أو البرامج التي يحتاجون إليها دوماً عبر الإنترنت بدايةً من شهادة مهنية إلى دكتوراه من جامعة عريقة.
لكن في المقابل، يتطلَّب التعليم عبر الإنترنت درجة عالية جداً من الانضباط الذاتي. فالافتقار إلى الإشراف المباشر يعطي قدراً كبيراً من الحرية، مما قد يجعل بعض الطلاب يتخلّفون في الدراسة.
كما قد تعيق الدورات التدريبية عبر الإنترنت أحياناً المهارات الشخصية التي يكتسبها الطلاب من الدراسة وجهاً لوجه. ففي الفصول الدراسية التقليدية، يُطلب من الطلاب التعبير عن آرائهم وإلقاء العروض التقديمية والتفاعل عبر ورش العمل وغيرها.
كما يُطلب منهم العمل وجهاً لوجه في مجموعات مع جميع أنواع الأشخاص الذين لديهم العديد من وجهات النظر المختلفة. تجلب هذه الإجراءات مهارات شخصية بالغة الأهمية، لكن في حالة التعلم عبر الإنترنت، لا يتضمن الفصل الافتراضي كثيراً من هذه الأنشطة.
فعندما يتلقَّى الطلاب التدريس وجهاً لوجه، يصادفون ردود فعلٍ لفظية ونقداً بناءً في كثيرٍ من الأوقات، مما يغرس فيهم دافعاً لعدم الرغبة في التخلِّي عن معلميهم والتمسُّك بالقدوة ما يكون له بالغ الأثر في حياة الطلاب خاصة الأطفال منهم، وهذا يجعلهم متحفزين أكثر للنجاح في مجالات محددة، ما يمثل أحد أهم الفوارق بين التعليم عبر الإنترنت والتعليم التقليدي.
في النهاية، ورغم كلّ هذه التطوّرات التي فرضها انتشار فيروس كورونا والفرصة التي أعطاها للتعليم عبر الإنترنت، فلا يزال الحكم على مستقبل التعليم يحتاج إلى الكثير مع الوقت، لكن يبدو الآن أنّ أغلب الجامعات عبر العالم قد بدأت بتطوير منصاتها للتعلم عبر الإنترنت.