تحول اللون الأخضر الزمردي الذي يميز الدار البيضاء تدريجياً إلى اللون الأصفر الباهت. وأنا أسير على الطريق الأسفلتي، كان بوسعي أن أرى اللون الأصفر الباهت يخترق جدران بياض جبال الأطلس. في عام 1920، عبَّرت الروائية الأمريكية إديث وارتون في كتابها In Morocco عن السحر الذي تسلل إلى نفسها من وقع رؤيتها لجبال الأطلس والصحراء التي وراءه. كتبت وارتون أنَّ "إفريقيا المجهولة تبدو أقرب إلى المغرب منها إلى بلدات تونس والواحات المبتسمة في جنوب الجزائر. يشعر المرء بدفء مراكش يصل إليه وهو في مدينة فاس، ولا يفوته دفء تمبكتو حين يحط رحاله في مراكش".
حين يسعفك الحظ بالوجود في مراكش صبيحة يومٍ من أيام فبراير/شباط، فلن تشعر حينها بقرب الصحراء الكبرى، وإنَّما سيغزوك الشعور بقرب مدينتي ستانستيد وأورلي الأوروبيتين؛ إذ إنَّ الأسعار الزهيدة لرحلات الطيران جعلت وجود السياح الأوربيين يطغى على "المعسكر البدوي العظيم" في الجنوب، الذي جذب إليه من قبلُ الطوارق الذين سكنوا طريق التجارة عبر الصحراء الكبرى منذ القرن الخامس قبل الميلاد على الأقل، وعُرفوا بـ "شعب الصحراء الأزرق" في إشارةٍ إلى ألوان أثوابهم الزرقاء.
الآن بات من المستحيل أن تجد عبق تُمْبُكْتُو في مراكش؛ إذ إنَّ الحدود التي وضعها الاستعمار والتوترات الحديثة التي نشأت بعد نشوب نزاعٍ بين المغرب والجزائر أسفرت عن إغلاق الحدود بشكلٍ دائم بين البلدين منذ عام 1994، ما أسفر عن تراجع سطوة الصحراء. وبات على المرء أن يُوغل في البعد جنوباً، عابراً جبال الأطلس ليدخل وادي درعة، الواحة التي تبلغ مساحتها 8900 ميلٍ مربع على طول الحدود مع الجزائر، ليجد نفحة من ذاك العالم الذي اتسم بالتناغم والانسجام الداخلي نتيجة تبادل السلع والأفكار، بدءاً بالملح والفضة والعبيد ووصولاً إلى الأديان والمخطوطات وأواصر النسب.
حاضرنا عدو ماضينا
يقول آتيش تاسر، الكاتب في صحيفة The New York Times: تحدث إليّ صديقٌ إيراني أثق في ذوقه وحسه الرفيع ذات مساء عن درعة. وأخبرني عن المكتبات الإسلامية التي تعود إلى العصور الوسطى والموجودة في البلدات الصغيرة في الصحراء الكبرى، وعن الأضرحة الخاصة بالأولياء الذين عاشوا في الصحراء، وعن منازل اليهود القديمة.
كنتُ أتحرق شوقاً للذهاب؛ فقد كنتُ أنعى في مخيلتي تجربةً عشتها في صحراء الجزيرة العربية قبل 10 سنوات، حين كنتُ مسافراً إلى منطقة حضرموت في اليمن، المعروفة بموقعها الاستراتيجي في طريق تجارة البخور، أثناء إجراء الأبحاث الخاصة بكتابي الأول "Stranger to History: A Son's Journey Through Islamic Lands" عام 2009. راودتني مخاوف من أنَّ الحرب الدائرة في اليمن في السنوات الأخيرة قد ألقت بظلالها القبيحة على البيوت الطينية في المدن الأقرب إلى الخيال، القائمة وسط حزامٍ من أشجار النخيل الباسقة وزرقة السماء الصافية، يملأها النسيم العليل والظلال الوارفة.
قد يبدو غريباً أن يذهب المرء إلى مكانٍ بحثاً عن مكانٍ آخر، غير أنَّ كثيراً من التفاصيل الجميلة قد ضاعت مؤخراً هنا في ظل انتشار الحداثة التي تحاول إضفاء التجانس على المنطقة، وهناك من خلال تدمير مواقع عتيقة مثل مدينة باميان في أفغانستان وتدمر في سوريا. حاضرنا عدو ماضينا، وقد بدأت أجد لذة في الترحال لاستكشاف بقايا الأماكن الفانية أكثر من تلك التي أجدها لاكتشاف أماكن جديدة.
شعرتُ بشيء من الارتياح حين رأيت اسم مسيو عز الدين يظهر على شاشة هاتفي وسط أكوامٍ من رسائل تطبيق الواتساب الواردة إليَّ من كل حدبٍ وصوب. مسيو عز الدين رجل ملتحٍ قوي البنية، ويرتدي نظارة وله ابتسامة تكشف عن أسنانه المتكسرة، هذا بالإضافة إلى ما يتميز به من طبعه الودود مع الجميع، وولعه الشديد بسجائر وينستون. قبل أن ألتقي عز الدين بعام، كنتُ قد التقيت شاباً مغربياً وسيماً يُمارس رياضة اليوغا على متن رحلة لطيران الاتحاد متجهة إلى دلهي بالهند.
أصبحنا سريعاً صديقين على موقع إنستغرام. وحين احتجتُ إلى سائق يصحبني إلى أعماق الجنوب في المغرب، اقترح عليّ هذا الصديق السائق عز الدين. وسرعان ما دخلنا جميعاً في مجموعة دردشة على مجموعة واتساب تحمل عنوان "Maroc". ولأنِّي كنت تلميذاً مميزاً في اللغة الفرنسية في الجامعة، أتحدث الآن فرنسية غير طليقة وإن كانت مفهومة، بثقةٍ لا مبرر لها. حين عبَّر عز الدين عن مخاوفه من الرمال، مشيراً إليها بكلمة "Le Sable"، أخذتُ أفكر وأفكر وأعتصر ذهني، وقفز إلى ذهني بشكلٍ مشوش عنوان رواية للكاتب المغربي العظيم الطاهر بن جلون، تحمل عنوان "L'Enfant de Sable" (طفل الرمال)؛ فقلت حينها لعز الدين: "آه، فهمت قصدك. لكن لا تقلق. فأنا لا أسعى خلف رمال الصحراء الكبرى، وإنَّما أسعى إلى سبر أغوار عالم الصحراء الكبرى. اتفقنا على السعر ورتبنا اللقاء في مطار مراكش المنارة الدولي.
مراكش.. المدينة الحمراء الوردية
توقفنا لفترةٍ وجيزة في محطة وقود إفريقيا لملء وقود السيارة، ثم أسرعنا إلى المدينة الوردية، التي تمتلئ شوارعها بأشجار البرتقال، وثمارها الوارفة تُشكل ظلالاً سُداسية بديعة. لمحت ومضات من نبات البوغَنْڤيليا بدرجات اللون الكرزي الداكن، تحيط بها زُرقة السماء الصافية لترسم لوحةً فنية بديعة، لم يجرؤ حتى رسام المدرسة الرومانسية الفرنسية أوجين ديلاكروا على أن يحاول محاكاتها عام 1832 حتى عاد إلى فرنسا بعد أشهر. صعدنا جبال أطلس وتوجهنا جهة الجنوب الشرقي، سالكين طريق تيزي نتيشكة، وهو طريق مشهورٌ بتعرجاته الحادة ومناظره الخلابة وتدرجه.
حزام جبال الأطلس الذي منح المغرب عمودها الفقري الملتوي كان أيضاً بمثابة حاجزٍ بين عالمين. على أحد الجانبين تُوجد منطقة بلاد المخزن، وهي منطقة قانونية؛ وفي الجانب الآخر توجد "بلاد السيبة"، وسُميت "السيبة" للإشارة إلى خروجها عن نطاق القانون والنظام. كان هذا التقسيم يُستخدم في مرحلة ما قبل الاستعمار ليفصل المنطقة التي تخضع لحكم الأسرة العلوية في القرن السابع عشر عن المنطقة القبلية في الجنوب التي لم تُسلِم لسلطة العلويين.
يُطل نصف هذه الدولة الحدباء على البحر، ومنه تسلل نفوذ ممالك الفينيقيين وقرطاجة والرومان، أما النصف الآخر فيحدق في محيطٍ من الرمال، شاسع لدرجة أنَّه يُشكل عالماً وحده. ومن الشرق دخلت القومية العربية والإسلام، لتمتزج مع أعرق عنصر في الشخصية المغربية متعددة الأطياف، ألا وهو البربر أو الأمازيغ. الأمازيغ هم السكان الأصليون لشمال إفريقيا، ويتحدثون لغاتٍ إفريقية وآسيوية، في عالمٍ أبعد ما يكون عن العربية والإسلام، شاعت فيه الكثير من الأديان الإحيائية. ويعمل تاريخهم ولغتهم ولباسهم وتقاليدهم كرابطٍ للماضي البعيد للبلاد، باعتباره متمايزاً عن تاريخ الدين الإسلامي، الذي دخل إلى البلاد بفعل الموجات المتعاقبة من الفتوحات الإسلامية التي بدأت في القرن السابع عشر.
التنوع اللامتناهي للمغرب
"ليس ثمة مناظر طبيعية مجردة"، بهذه العبارة ردَّ الروائي جون ماكسويل كويتزي بحسمٍ على صحفي كان يعقد معه مقابلةً، وطلب منه أن ينتقل إلى "أسئلةٍ تتجاوز المناظر الطبيعية المجردة". في المغرب، فهمتُ مغزى هذه الكلمات؛ ذلك أنَّ المناظر الطبيعية باتت متنوعة لدرجة بدت معها وكأنَّها تختزل في طياتها الطبائع المتنوعة للبلاد. ظهر الأحمر القاني لإفريقيا الوسطى في التلال المجعدة المغطاة بالعشب الزمردي الكثيف.
وحين تسير إلى الأمام ستجد في نفس الإطار غابة صنوبرٍ سويسري تقودك إلى جبال شاهقة ووعرة، تعلو قممها ثلوج مصقولة تتسلط عليها أشعة الشمس. أما التلال البُنية المغطاة بالشجيرات الصغيرة التي تشبه جزيرةً يونانية، فتحتضن حصوناً من أشجار الصبَّار المثمرة. وتظهر نباتات الأركان الكثيفة المتخثرة بلونٍ أخضر نضر ينعكس على الأرض الطينية السوداء، وإلى جانبها براعم اللوز النحيلة، التي تنشر ظلالاً بديعة وكأنَّها أجنحة بيضاء.
وتتلألأ الوديان العميقة بفروع الزيتون الغزيرة، التي تدين بالفضل في خصوبتها إلى جداول الماء المتدفقة، وكأنَّها شرائط رفيعة تنساب من ضفائر صغيرة جميلة. كل هذه التوليفات التي يستحيل أن تجدها في أي مكانٍ آخر، وكل هذا التنوع اللامتناهي هو ما يشكل شخصية المغرب المميزة؛ كله وليس بعضه. في المغرب يبدو وكأنَّ رَحِم الأرض أخرج كل ما كانت حُبلى به من خيرات، ويكأن قارات العالم تتشابك فيها مع بعضها البعض، تنتظر حُكم رمال الصحراء الشاسعة وسمائها المفتوحة.
في تلك الليلة أسلمنا طريق تيزي نتيشكة إلى طريقٍ أدى إلى سهلٍ قاحل بالقرب من ورزازات (التي تُعرف ببوابة الصحراء)، على بُعد 120 ميلاً جنوب شرق مراكش، التي وضعتُ فيها رحالي حين وصلت. رسمت الشمس المائلة إلى المغيب لوحة خلابة لتجاعيد التلال الحمراء. وحلَّ صمتٌ رهيب على الأرض.
محاميد الغزلان
محاميد الغزلان هي آخر بلدة في المغرب قبل حدوده مع الجزائر. الطريق إلى هذه البلدة ليس سهلاً. وصلنا ظهر اليوم الثاني إلى فندق صغير يُسمى "دار بارو". وكان هذا آخر مبنى على طول طريقٍ من الطين على جانبيه قُرى منازلها مبنية من الطوب. "بارو" هو اسم مالكة الفندق الألمانية، التي آثرتُ استخدام اسمها السَّنْسِكرِيتيَّ فور اعتناقها المذهب البوذي. جلست بارو خارج الفندق في شمس الأصيل، وتظهر عليها علامات التقدم في العمر بعد أن بدأ الشيب يتسلل إلى شعرها، وهي تحتسي الشاي وتفحص إحدى الخرائط.
وقالت بابتسامة غريبة: "هل رأيتَ باب الفندق الذي يفتح على الصحراء الكبرى؟".
جلسنا في حديقة غنَّاء ثرية بأشجار الزيتون والنخيل. ولشدة ازدهارها كان من الصعب عليَّ أن أتصور أنَّ الصحراء على بُعد خطواتٍ بسيطة منا. اقتادتني بارو إلى بابٍ في أقصى طرف حديقةٍ مسوَّرة. فتحتُ ذلك الباب، وهناك، خلف ذلك الإطار الخالي من أي زخرفة، تراءت لي الكثبان الهلالية الشاسعة المحاطة بقبابٍ سوداء حادة. كان منظراً مذهلاً عجزتُ من فرط جماله عن الكلام، وإن كان هذا لم يمنع من تسلل شعورٍ غريب بالخوف إلى نفسي بعد أن وجدتني في هذا الفندق الخالي من البشر، على بُعد خطواتٍ من أحد القفار الموحشة التي تساوي في حجمها تقريباً حجم الولايات المتحدة الأمريكية.
سألتُ بارو: "ما الذي جاء بكِ إلى هنا؟".
فردت عليَّ دون تردد: "صوتٌ في وجداني".
ثم بدأت بارو بعدها في الحديث عن آباء الصحراء وعن رجال "المرابطين" الذين استغلوا هذه البقعة من الصحراء كموقعٍ للتأمل الروحاني. وتحدثت بحماسٍ غامر عن أضرحة هؤلاء الرجال في القرى القديمة المحيطة بالصحراء.
تبعت بارو إملاءات "صوتها الوجداني"، الذي دفعها إلى ترك زوجها في ألمانيا في منتصف تسعينيات القرن العشرين والحضور عبر إسبانيا إلى هذا المكان في الصحراء. فور أن رأت مبنى الفندق، دخلت في نوبةٍ من البكاء، لأنَّ شيئاً في نفسها أخبرها أنَّها تعرف هذا المكان. واستدعت حالة الهلع التي سيطرت عليها حين كانت في رحلةٍ في الصحراء مع الأمازيغ. لم تكن حينها متدينةً، ولا مسلمة بالطبع؛ لكنَّها وجدت نفسها تردد بالجزء الأول من الشهادتين "لا إله إلا الله". قالت لي وهي تبكي، وكأنَّها لا تزال مندهشة من انطلاق شفتيها بنطق الشهادتين دون إرادةٍ منها: "لكنَّ الأمر منطقي، أليس كذلك؟".
وبهذا نطقت بارو بالشق الثاني "وأشهد أن محمداً رسول الله"؛ حتى ذهب عنها الخوف، وكأنَّها استدعت حماية قوة التوحيد ضد خوفٍ مقدس.
في تلك الليلة راودني أنا أيضاً خوفٌ من نوعٍ خاص. دائماً ما نزعم أنَّنا نسافر لنعايش تجارب مختلفة، لكن حين تعترض طريقنا تجربة حقيقية، نجد في نفسنا تلكؤاً في تسجيلها، لا سيما إذا كانت من التجارب التي لا يسهل شرحها.
حل الظلام، وتناولت الطاجين وحدي في غرفة مضاءة بالنار. التحقت بي بارو لتناول الحلوى، ثم آويتُ إلى غرفةٍ صغيرة بسقف مرتفع؛ ضيقةٌ كتابوت الموتى، وبها سريرٌ محاطٌ بناموسية بيضاء.
كانت الساعة تقترب من الواحدة والنصف صباحاً، حين استيقظتُ فزِعاً. كان جسدي متجمداً كما لو كان مثتباً إلى السرير بقوة خفية. شعرتُ بشللٍ في جسدي، وعجزتُ عن التقاط أنفاسي؛ وأحاطت بي أسوأ كوابيسي. كنتُ بين النائم واليقظان، وبذلتُ وسعي لكي أركز تفكيري على جميع الأشياء الإيجابية في حياتي، زوجتي وكلبي. لكن كل هذا انقلب عليَّ مجدداً وعاد إليَّ في صورة الخوف، الذي ترددت أصداؤه في أنحاء جسمي ليقيد حركتي. بدت بارو نفسها كساحرة شريرة أمام عيني. وحينها تذكرت القصة التي كانت قد روتها لي، ووجدتُ نفسي أنطق بنفس الكلمات التي استخدمتها لترد عن نفسها شبح الخوف: "لا إله إلا الله.. محمد رسول الله". كانت هذه أول مرة في حياتي أدعو الله فيها.
تمبكتو
في الصباح، لم أنطق بشيءٍ مما حدث لي أمام بارو، لكنِّي كنتُ مصراً على الرحيل. قضينا النهار ونحن ننتقل بين حقول الشعير، التي تُحيط بها الصحراء الكبرى. أشارت بارو إلى الأضرحة المربعة ذات الأسقف المقببة، المؤطرة مقابل السطح المضلع للصحراء الشاسعة. كان القرب المكاني لمدينة تمبكتو واضحاً ونابضاً في مدينة محاميد؛ وأشارت إحدى اللافتات إلى أنَّ المدينة لا تزال على بُعد مسيرة 52 يوماً بالجمال. كانت مدينة تمبكتو المركز المحوري للثقافة والتجارة على الطريق الذي كانت تسلكه القوافل قاطعة الصحراء، ولامسها بريقٌ خاصٌ في المخيلة الغربية. شعرتُ أني أقف في محيط عالم متقاطع من الأديان والمعتقدات.
وجدتُ نفسي، وأنا الذي أظن في نفسي أنِّي لا أؤمن بالأديان؛ مضطراً إلى معايشة هذه التجربة الخارقة للطبيعة. وهو أمرٌ لو تعلمون عظيم. لم يسبق لي أن عايشتُ شيئاً يشبه هذا من قريبٍ أو من بعيد. وكنتُ أضحك ملء شدقيَّ على كل من زعموا أنَّهم رأوا أشباحاً أو غلبتهم الطاقة المنبعثة من مكانٍ ما. تقطعت بي السبل لفهم ما حدث في دار بارو، ولم أكن أرغب في أن أترك مساحةً في حياتي للإيمان بالسحر. كانت الليلة التي قضيتها في الصحراء الكبرى فوق حدود استيعابي، وتركتني في حالة من الشك والانزعاج. لا يمكنني أن أؤمن بالأشياء الخارقة للطبيعة، لكنِّي لن أسخر منها بعد اليوم بيقينٍ قاطع.
في تلك الظهيرة، على بُعد حوالي 45 ميلاً جهة الشمال، في بلدة تامكروت التي يملؤها الذباب، والموجودة على طول طريقٍ ترابي، تعرفتُ على خطوط المواصلات التي سبق لها أن ربطت عالم الصحراء الكبرى البائد. ها هنا لا يزال مجتمعٌ من صانعي الفخار يُنتج بلاط الأرضيات الذي تُثير خضرته الشهباء في النفوس حضارة المغرب والمسلمين في الأندلس، وحيث يقف صبية صغار بملابس متسخة يحملون أنابيب طويلة ويمثلون أنَّهم مؤذنون. وهنا أسس سيدي محمد ناصر، الطبيب والأستاذ الديني، طريقةً صوفية في القرن السابع عشر سماها الطريقة الناصرية. تضم المكتبات الخاصة لتمبكتو مجموعةً كبيرة من مخطوطات ناصر التي تحمل أفكاره، وحاول المقاتلون التابعون للقاعدة تدميرها عام 2013.
كانت المكتبة قد أغلقت أبوابها قبل وصولنا في استراحة منتصف اليوم، غير أنَّ عز الدين كان سريع البديهة بما يكفي ليدفع رشوة صغيرة لأحد المرشدين المحليين. بعد هذا أخبرنا الموجودون في المكان أنَّ أمناء المكتبة في طريقهم إلينا؛ ورأينا في الأفق رجلين قادمين في الطريق، كل واحد منهما يحمل مجموعة مختلفة من المفاتيح.
"ها قد جاء"، صاح عز الدين، وهو يخرج سيجارة وينستون بعد أن رأى رجلاً عجوزاً يرتدي جلباباً ونظارة شمس سوداء من طراز راي تشارلز، يقترب منا عبر الميدان المركزي على كرسي متحرك. كان الرجل يرتدي طاقية مصنوعة من الكروشيه باللونين الأبيض والذهبي، وسماعات أذن ضخمة. وهذا الرجل المهيب الذي سقطت أسنانه كان هو الأمين الأكبر سناً؛ وما لبث أن انضم إليه شابٌ أصغر سناً؛ وصل على دراجة من طراز "بي إم إكس". فتح لنا الحارسان أبواب المكتبة العظيمة بالتوالي، وبعد ثوانٍ معدودة، وجدنا أنفسنا في خزينة من كتب التعلم التي تعود إلى القرون الوسطى.
"فيثاغورس!"، هذا هو الاسم الذي صرخ به أمين المكتب العجوز الأصم وأنا أحدق دون فهم في الترجمة العربية لأعمال عالم الرياضيات الإغريقي. كانت هناك كتبٌ في الفلك والنبات، ونسخة رائعة للقرآن تعود إلى العصور الوسطى منحوتة على جلد الغزال. وكانت المكتبة تضم بين أروقتها عشرات الآلاف من المخطوطات. غير أنَّ هذا العدد انخفض مؤخراً؛ إذا تناثرت الكتب في متاحف متعددة في أماكن أخرى، وإن كان هذا لم يمنع المكتبة نفسها من أن تظل شامخةً كمركز للتعلم على حافة الفراغ الشاسع.
للغياب سطوته الخاصة. وفي تلك الظهيرة، سرتُ أنا وعز الدين لساعاتٍ في محيط واحدة من أعظم غيابات التاريخ. كانت الصحراء الكبرى تمتد خلف خطٍ من الجبال الحمراء، وهي جبال بني، وهي سلسلة من الجبال المنخفضة القاحلة التي تمتد كجدارٍ بحري على الجانب الجنوبي لسلسلة جبال الأطلس الصغيرة، التي تشكل أسطحها المقلمة دوامات كما لو كانت تحمل آثار بصمات أصابع ضخمة. هذه الخطوط، إذا ما أضيفت إلى حزام أشجار النخيل الأزرق، تركت في نفسي شعوراً بالاستمرارية. ومن حينٍ لآخر، كنتُ أشهد على هذا السهل المحترق وجود نبات سنط يقف وحيداً، أو بيت مهجور، أو شجرة وارفة لها ظلالٌ مثيرة.
حين كنتُ في نيويورك، سمعت برجل فرنسي اسمه باتريك سيمون، وهو رجلٌ ذو معرفة موسوعية اكتسبها بنفسه عن وادي درعة في المغرب. ظللتُ أقتفي أثره لأيام، إلى أن وجدته ذات مساءٍ يجلس على سطحٍ منحدر الجانبين ويتحدث في الهاتف وهو يلف رقبته بكوفية من الحرير. هذا الرجل عاش حيواتٍ كثيرة؛ أكثر من أن تُحصى. يعيش في المغرب منذ أكثر من 40 عاماً، وتوالت عليه المهن، بين مصمم ديكور وممثل وصاحب فندق وناشط بيئي. وصل الآن إلى السبعينيات من عمره، وله جسد قصير ووجه قزم خبيث وطاقة لا حدود لها. وأبرز إنجاز حققه في حياته هو حديقة جغرافية، أي مساحة للحفاظ على البيئة تضم 46,300 ميل مربع من وادي درعة، من إقليم طانطان المطل على المحيط وحتى إقليم زاكورة الموغل في اليابسة.
محور تلتقي فيه أوروبا وإفريقيا والعالم العربي
قال لي سيمون، وهو يشير براحة يده المبسوطة: "إذا كان ثمة واحة حية في هذا العالم، فهي ما تراه أمامك الآن". لفت نظري أنَّ سيمون لا يزال يرتدي خاتم الزواج في إصبعه، حتى بعد مرور سنواتٍ على وفاة زوجته، وهو أمرٌ أثار الشجن في نفسي. يصف سيمون المغرب نفسها بأنَّها محور تلتقي فيه أوروبا وإفريقيا والعالم العربي. كانت أقرب بلدة منا في وادي درعة هي بلدة "تيسينت"، وتعني "الملح" في لغة الأمازيغ، وفيها أنشأ سيمون معسكراً من الخيم البدوية. كانت هذه البلدة مركز الثقِل الرئيسي في التجارة التي ربطت أجزاء الصحراء الكبرى ببعضها البعض. ازداد العنصر الأمازيغي قوةً ونحن نوغل داخل وادي درعة، إلى أن وصلنا إلى منطقة أقرب من الناحية العرقية إلى إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى منها إلى العالم العربي. قال لي سيمون إنَّ العرب هم من أدخل أشجار النخيل إلى المنطقة، ليضعوا بذلك حجر الأساس لاقتصاد الواحة ويضمنوا انتشار الإسلام.
سألته: "من كان هنا قبلهم؟".
فأجابني: "مجتمعات قديمة من اليهود والأمازيغ والمسيحيين، وأتباع المذهب الإحيائي".
ووعدني عبد المجيد، وهو شابٌ حسن الهندام في العشرينيات من عمره يعمل لحساب سيمون، أن يُريني الأحياء اليهودية التي اعتاد اليهود العيش والعمل فيها. وبدا لي وهو ينتقل في الحديث بسلاسة بين الفرنسية والعربية والأمازيغية أنَّه يحمل في صدره تاريخ المغرب بأضلاعه الثلاثة.
حل الظلام وامتلأت السماء بعناقيد سميكة من النجوم. جلسنا أنا وسيمون بجوار النيران نتحدث عن التوتر الذي حدث في الدول الإسلامية أثناء محاولتها مصالحة ماضيها الإسلامي مع ماضيها في مرحلة ما قبل الإسلام. كتب الروائي فيديادر سوراجبراساد نيبول في كتابه Among the Believers: An Islamic Journey الصادر عام 1981 أنَّ "مرحلة ما قبل الإسلام كانت مرحلة من الظلام من وجهة نظر العقيدة الإسلامية. والتاريخ ينبغي أن يخدم وجهة النظر هذه". لم يمضِ على وجودي في المغرب سوى بضعة أيام، ومع ذلك شعرتُ بالفعل كما لو كنت قد دخلت إلى أرض الانتماء العميق والحنين إلى الجدود. وبدا لي أنَّ التاريخ الأمازيغي السابق لمرحلة الإسلام يتنفس بعمقٍ وسهولة إلى جوار الطابع العربي الذي تحولت إليه المدينة؛ بل وأنَّ التاريخ الأمازيغي، الموغل في القدم، كان محل تساؤل حتى لشخصٍ مثل عز الدين المتزوج من امرأة أمازيغية.
يتحدث الناس في المغرب عن أصولهم الأمازيغية كما لو كانوا يتحدثون عن جزءٍ مجهول من طبيعتهم. ولفت عبدالمجيد انتباهي في اليوم التالي إلى أنَّ شوارع بلدات درعة، التي تجمع بين الطابع العربي والطابع الأمازيغي، مرسومة على أزياء النساء. ترتدي الأمازيغيات تنوراتٍ بألوانٍ زاهية وقمصاناً مخملية ناعمة وأغطية مزركشة للرأس، بينما ارتدت النساء العربيات ملاحف منقوشة بألوان زاهية أو مصبوغة بألوان متداخلة.
الحي اليهودي في بوادي درعة
كنتُ أنا وعبدالمجيد وعز الدين في طريقنا إلى الحي اليهودي في بلدةٍ صغيرة بوادي درعة تُسمى أكا، على بُعد 80 ميلاً جنوب غرب تيسينت. كان إحساس الحضور الذي يفرضه الغياب هو الشاغل الأساسي لي وأنا أتنقل داخل وادي درعة، على امتداد الفراغ الذي نجح في التوحيد بين البشر من خلال مرور التجارة والأفكار.
في آخر يوم لي في درعة، ألقيتُ نظرة على البيوت الخاوية لمجتمعٍ شكل ذات يوم جزءاً لا يتجزأ من التنوع المغربي، بعد أن باتت هذه البيوت اليوم خاوية على عروشها. كان هناك يهودٌ في المغرب حضروا إلى البلاد بعد أن طردتهم إسبانيا الكاثوليكية في القرن الخامس عشر؛ غير أنَّ يهود درعة كانوا يشكلون مجتمعاً أكثر قدماً، ويتألف من تجار وحرفيين لهم أصول تعود إلى القرن الثاني على الأقل.
أشار عبدالمجيد إلى الأبواب الصغيرة، التي كانت تشكل طابعاً أساسياً للمجتمعات التي اشتغلت في تجارة الفضة. واصطحبني في جولة وسط المباني المجعدة المصنوعة من الطوب اللبِن، والشوارع الضيقة المظللة التي أصبحت الآن تعج بأكوام القمامة؛ لكنَّ كل هذا لم يُظهر لي طبيعة يهود أكا. حتى تعثرت، بالصدفة البحتة، في منزلٍ مهدوم الجدران، وفي كوَّةٍ بالمنزل وجدتُ لمحاتٍ من نقوش زخرفية، تتخذ أشكالاً مختلفة. كانت إحدى هذه الزخارف مغطاة بدوائر صغيرة بألوان الأزرق والأبيض والبني؛ أما الأخرى فكانت بأوراق زرقاء على شكل أزهار اللوز ومن ورائها خلفية زرقاء. ما هذا يا تُرى؟ ما تلك الرموز الغريبة؟ بدت لي هذه الرموز وكأنَّها جزء من لعبة لوحية عتيقة أو رسمة مانديلا؛ كانت تجريدية وتحمل الكثير من الإشارات، وساحرة وآسرة بما تشع به من عزم على أن تظل دليلاً مادياً على حياة من كانوا هنا ورحلوا.
مدينة تارودانت
تبعتنا شجون المنفى والغياب إلى مدينة تارودانت، التي تستظل بجبال الأطلس على بُعد 140 ميلاً جنوب غرب مراكش. كانت رحلة فوق الخيال، وفيها تلقيتُ دون مقاومة كل ما صادف طريقي من بشر وتجارب. وهو ما قادني بدوره إلى منعطف أخير يفوق الخيال هو الآخر. كان صديقي الإيراني من نيويورك، الذي كان أول من أخبرني عن درعة، صديقاً مقرباً لآخر إمبراطورة لإيران، فرح بهلوي. وبينما أنا في خامس يوم لي دون أن أحلق ذقني، وبالكاد أجد قميصاً نظيفاً؛ فما بالك ببذلة كاملة أو جاكيت أو حذاء رسمي، تلقيتُ رسالة من صديقي الإيراني قال فيها: "تواصلت معي الملكة فرح، وطلبت مني أن أحضر إلى العشاء غداً".
اقتادني بابٌ أزرق مضاء بإضاءة خافتة إلى حديقة غنَّاء تتراقص فيها أزهار الياسمين بفعل نسيم الليل العليل. دخلتُ غرفة عظيمة، مزينة بشمعدانات من النحاس وبيض النعام الموضوع في أطباق؛ وفي أحد أطراف الغرفة اشتعلت النيران للتدفئة، وفي الطرف الآخر ظهر من الأبواب الزجاجية مسبح مضاء بأنوار باهرة. وعلى لوحة جانبية اصطفت مجموعة كبيرة من صور الشاه الأخير في إيران. غادر محمد رضا بهلوي وزوجته فرح بهلوي إيران عام 1979، بعد صعود آية الله الخميني إلى سُدة الحكم في أعقاب الثورة الإسلامية.
لم يلبث الشاه أن مات بعد ذلك بفترةٍ وجيزة بعد إصابته بالسرطان، أما فرح فبدأت حياة المنفى الطويلة في مصر والولايات المتحدة وباريس. اشترت منزلها الطيني في تارودانت، ودأبت على الحضور إليه عدة مرات في السنة، لأنَّه يذكرها ببلادٍ تتوق إلى العودة إليها. لم تتأخر الشهبانو في الحضور إلينا، وبدت محتفظة ببريقها حتى بعد أن بلغت الثمانين، وتضع شرائط سوداء في شعرها الذهبي، وترتدي عُقداً في غاية الجمال في رقبتها.
جلسنا في انتظار العشاء الرائع، الممتلئ بالأصدقاء وأفراد العائلة، وتحول الحديث على المائدة بطبيعة الحال إلى المنفى والثورة والنُخب المدفوعة إلى خارج الدول التي تشهد تغيراً سريعاً. ونحن جالسون على مائدة كان الأرز الفارسي حاضراً عليها، التفتت إليّ الإمبراطورة وقالت: "يحمل الطعام أهمية خاصة وأنت في المنفى". وبعد ذلك، أمطرتني كلبتها بقبلات حارة؛ لأجد نفسي بعدها وحيداً مع شعور غريبٍ بالشجن من مقابلتي لواحدة من الشخصيات الأسطورية في القرن العشرين؛ السيدة التي حافظت على حس الدعابة والبراءة حتى وهي في الثمانين من عمرها؛ وحتى بعد أن عايشت فقد الوطن والأولاد، وعايشت تجارب أكبر من أن يستوعبها الإنسان حتى ولو عاش أعماراً فوق عمره. لكن قبل أن أدخل من باب منزل الإمبراطورة لتداهمني الحضارة بكل قوتها، وجدتُ صعوبة في إخراج صورة ذاك الباب الذي يؤدي إلى الصحراء الكبرى في دار بارو من مخيلتي.
سحر المغرب الذي لا ينفك
كثيراً ما حدثني صديقي الإيراني عن سحر المغرب الذي لا ينفك. وأنا في تارودنت علمتُ أنَّني سأترك هذا المكان خلفي، وأقطع الجبال عائداً إلى بلد المخزن، المنطقة الحكومية التي تتبع القانون. سيعود عالم الإسلام ثانيةً، مرصعاً فوق باكورة المعتقدات التي سبقته، أو كما قالت وارتون: "عبادة الحجارة والحيوانات وجميع المعتقدات الغريبة التي كان النبي محمد يطمح أن يحرر إفريقيا منها". حتى وأنا في الجامع الكبير في تينمل، التي كانت في السابق عاصمة دولة الموحدين، كان من المستحيل علي أن يعاودني الشعور الذي غمرني وأنا أقف في هذا المنزل العظيم على الجانب الآخر من جبال الأطلس.
كان شعوراً بالخواء، وكأنَّ الصحراء قد استخرجت كل ما كان في داخلي. كان خروج صوت أغاني Bella Ciao من المذياع مؤذناً بخروجنا من دائرة الصمت وعودتنا إلى التنوع؛ مزيحاً بذلك التشابه القاتل الذين عايشناه في الصحراء، والذي جعل كل مقبرة وشجرة بمثابة نقطة تركيز للعين والروح. لوهلة وقفتُ حائراً بين المنزلتين. أمامي بابٌ لغرفة مضاءة بألوانٍ باهرة تعج بالبهجة والضحك، ومن خلفي باب بارو الذي يؤدي إلى الصحراء الكبرى؛ ومن حولي، وبين ثنايا عظامي، أعرف على وجه اليقين الذي لم يسبق أن وصلت له في حياتي أنَّ الصحراء مصدرٌ روحاني بالغ القوة.
أنا لستُ شخصاً روحانياً، بل أنا مخلصٌ للحقائق الصلبة. وهذا أمرٌ يخيفني. شعرتُ بشيءٍ من الألفة مع هشاشة بلد المخزن، المكان الذي أوجده بشرٌ ليساعدهم في البقاء على مسافةٍ آمنة من اضطراب البال الذي يلقاه المرء إذا ما دخل إلى الباب الخطأ.