لم تكن رحلة عواطف عبد الكريم مع الموسيقى عادية، بل على العكس من ذلك تماماً؛ فقد تخللتها تحديات مختلفة قبل أن تصبح أول سيدة مصرية تدرس الموسيقى أكاديمياً، وتتخرج من كلية التربية الموسيقية، ومن ثم تستكمل تعلمها في النمسا.
يكفي أن تتخيل أن فتاة من الصعيد أرادت أن تتعلم في عام 1931، وليس أي تعليم، بل التأليف الموسيقي والفنون المسرحية، وخارج مصر. لقد واجهت عواطف عبد الكريم تحديات كثيرة قبل أن تصبح رائدة في مجالها.
يعتقد كثيرون أن مجال التلحين والتأليف الموسيقي يقتصر على الرجال، ولهم الحق في ذلك مع غيابٍ كبير للسيدات في هذا المجال، لكن عواطف عبد الكريم كانت أول "موسيقار" في تاريخ مصر الحديث.
ليس هذا وحسب، ولكنها أنشأت أيضاً قسم النظريات والتأليف في كلية التربية الموسيقية، إلى جانب قسم القيادة والتأليف في الكونسرفتوار الوطني، وقسم الموسيقى في معهد النقد الفني. فساهمت بشكلٍ مباشر بتطوير الدراسة الموسيقية في مصر.
من بيانو العائلة.. بداية عواطف عبد الكريم
وُلدت عواطف عبد الكريم عام 1931، لأبٍ يعمل مهندساً وأم تركية الأصل تعشق الحياكة (التريكو) وشغل الإبرة، وترى أن سيدات البيوت يجب أن يُجِدن الموسيقى. فكانت أساس عشق العائلة للموسيقى.
كانت عواطف الشقيقة الثالثة بعد شقيقتين تكبرانها، وقبل أخٍ وُلد من بعدها، هو الدكتور صلاح عبد الكريم. وكما العائلات القديمة، حافظت الوالدة على وجود البيانو في منزلهم الواقع بمحافظة الفيوم.
فتعلمت الشقيقتان الكبيرتان العزف على البيانو. وفي الوقت الذي تشبعت فيه الشقيقة الوسطى عفاف حب الموسيقى، وحصلت على دروسٍ خصوصية في العزف على آلة الكمان، إلا أن الموهبة الحقيقية كانت لدى عواطف.
كانت الطفلة عواطف تسترق السمع على شقيقتيها، حتى انتقلت إلى القاهرة بصحبة عائلتها وهي في الثامنة من عمرها، ليرسم القدر حياتها الجديدة.
في حوارٍ أجرته عام 2004 مع مؤسسة "المرأة والذاكرة"، بالتعاون مع مؤسسة "ولاد البلد"، تقول عواطف: "عقب حصولي على الابتدائية، قالت لي شقيقتي عفاف إن هناك خبيرين ألمانيين في القاهرة اتفقا مع وزارة التربية والتعليم على تأسيس مدرسة ثانوية للموسيقى، وأنه يمكنني التقديم".
ربما لهذا السبب تخصصت عواطف بالموسيقى الغربية في بداية حياتها، لتلتحق فيما بعد بكلية التربية الموسيقية بجامعة حلوان رغم اعتراضات أسرتها، خاصة حين أعلنت عن رغبتها باستكمال الدراسة في الخارج؛ وهو ما رفضته العائلة تماماً، لكن القدر ساعدها للمرة الثانية.
في ذلك الوقت، تقدّم لخطبتها الدكتور محمد عبد الفتاح البيلي، الذي دعمها تماماً في كل مخططاتها، وتحقق لها ما أرادت. فتخرجت عام 1954 وتزوجت عام 1955، ثم سافرت مع البعثة المصرية إلى النمسا سنة 1957، حين كانت ابنتها لم تتخطَّ عمر الـ14 شهراً.
تخطت التحديات بدعمٍ من زوجها
في النمسا، دخلت عواطف عبد الكريم جامعة موزارتيوم سالزبورغ، إحدى أكبر المؤسسات الموسيقية في العالم وقتئذٍ، المتخصصة في الموسيقى والفنون الدرامية وفنون الرسم.
لم يكن الأمر سهلاً على الإطلاق مع طفلةٍ لم تبلغ عاماً ونصفاً بعد، لها الكثير من المتطلبات، تصرخ وتبكي وتحاول الانطلاق. والأم، الوحيدة في بلاد الغربة، ملتزمة بجدول محاضرات وساعات طويلة من الدراسة.
فكانت تصحب ابنتها معها طوال الوقت، وقد عرّضها ذلك للتعنيف في بعض الأوقات. فقد تحدثت عواطف عن ذكرياتها في البعثة، وذكرت كيف صرخ بوجهها المستشار الثقافي المصري في النمسا (وهو أحد أساتذتها) الذي اعتقد أن اصطحاب ابنتها غير لائق.
لكن ذلك لم يُضعف عزيمتها، خصوصاً حين لحق بها زوجها في السنة الثانية على نفقته الخاصة، وحصلت على درجة الامتياز وجائزة التفوق من النمسا.
عادت عواطف عبد الكريم من النمسا، وأقامت في حي الزمالك بالقاهرة، في المنزل الذي لا يزال يحمل لافتة "هنا عاش" حتى الآن، المخصّصة للمؤثرين المصريين. وبمجرد عودتها، تم تعيينها معيدة في المعهد العالي للتربية الموسيقية، لتبدأ مسيرتها في التدريس.
أسّست أقسام التأليف الموسيقي، ودرّستها في كل من المعهد العالي للسينما والكونسرفتوار الوطني، وشغلت منصب عميدة كلية التربية الموسيقية في جامعة حلوان، قبل أن تُعيَّن مقررة للجنة الموسيقى والأوبرا والباليه بين عامَي 1991 و1999.
في عام 1994، انتُخبت عواطف عبد الكريم عضوة شرفية في المجلس الدولي للموسيقى التابع لليونسكو عام 1994. وبالتزامن، ترأست تحرير مجلة "آفاق"، الصادرة عن لجنة الموسيقى والأوبرا والباليه في المجلس الأعلى للثقافة.
مؤلفة في الظل ومحاربة لا تساوم على مبادئها
لحّنت عواطف عبد الكريم موسيقى عدد كبير من المسرحيات، مثل: "لعبة النهاية" لصمويل بيكيت، و"رحلة خارج السور" لرشاد رشدي، و"الطرف الآخر" ليوسف إدريس، إضافةً إلى "مدينة الأحلام والأربعين حرامي" لمسرح العرائس.
وألفت عواطف موسيقى مسرحية "السبنسة"، التي تبدو موسيقى أصيلة خاطفة للأذن ومميزة جداً منذ اللحظة الأولى لسماعها.
وعن التأليف الموسيقي، تقول عبد الكريم: "الموسيقى الرفيعة الجادة بتبقى عاوزة جهد زي جهد تأليف كتاب، مش ماسكة العود بدندن وألحن وأرمي. فيه جهد التأليف، وفيه وضع الهرمونيات، وفيه الأوركسترا الكامل".
ومع ذلك، نفذت عواطف العديد من الأغنيات لكورال عدد من المدارس، ومسرح خيال الظل، فضلاً عن موسيقى عشرات الفواصل والمسلسلات والبرامج في الإذاعة، التي بقيت جميعها -وسواها- في الظل.
لم تصل كل هذه الأعمال إلى عالم الغناء، حيث الكثير من المشاهير، وهو ما أبدت ندمها عليه لاحقاً، قائلة: "هي دي الحتة اللي زعلانة عليها دلوقتي، الحتة الإبداعية، كان ممكن إن إبداعي يبقى مالي الدنيا وعلى مستوى كويس جداً".
حاربت عواطف عبد الكريم كثيراً من أجل تحسين "الذوق العام"، ولطالما تمسكت بأمور رأت أنها بديهية. ورغم لطفها الشديد وحرصها الدائم على القيام بعملها من دون صخب، إلا أنها وجدت نفسها تصطدم مع رئيس جامعة حلوان.
خلال فترة توليها منصب عميدة كلية التربية الموسيقية في ستينيات القرن الماضي، أراد رئيس الجامعة زيادة عدد الطلاب وتقليل ساعات الدراسة، الأمر الذي رفضته عواطف عبد الكريم بشكلٍ قاطع، ودخلت في خلافٍ طويل مع الرئيس انتهى باستقالتها.
عكفت بعد ذلك على تأليف المزيد من الكتب عن الموسيقى، فصدر لها كتاب "محيط الفنون.. موسيقى القرن العشرين" عن دار المعارف عام 1970، و"معجم الموسيقى" الذي يعتبر مرجعاً مهماً لطلاب الموسيقى حتى اليوم.
تُعدّ عواطف عبد الكريم امرأة مذهلة في المجال الموسيقي، ليس لتفوقها الأكاديمي، ولا لزهدها في المجال الفني، بل لأنها امتلكت ملكة توصيل المعلومات، خصوصاً للطلاب والمبتدئين في مجال الموسيقى.
وهي النقطة التي أثارت اهتمام الباحث علاء الدين ياسين، الذي أعدّ ورقة بحثية كاملة حول مقطوعات "العازف الصغير عند عواطف عبد الكريم"، وأسلوب أدائها على آلة البيانو.
وقد خلص إلى أن ألحانها لم تتميز فقط بالإيقاع النابض، والخطوط الغنائية الجميلة المعبرة عن الواقع المصري، وأيضاً الرشاقة. ولكنها -أي ألحانها- تتميز أيضاً بالتدرج الإيقاعي في الصعوبة النسبية بتدرج المؤلفات.
وهو ما اعتبره ياسين يساعد المبتدئين على التعلّم، ولهذا ألّفت عبد الكريم مقطوعات خالية من الحليات وغير مرقمة للأصابع. فأوصى في نهاية دراسته بإدراج مقطوعات "العازف الصغير" ضمن مناهج آلة البيانو للفرقة الأولى والثانية لمرحلة البكالوريوس.
في أبريل/نيسان 2021، وعن عمرٍ ناهز 90 عاماً، توفيت عواطف عبد الكريم؛ تاركةً خلفها تراثاً موسيقياً عظيماً، ودرساً في الإرادة والتصميم والسعي وراء الشغف.