يُعتبر الاحتلال الفرنسي للجزائر واحداً من أطول الاحتلالات وأكثرها بشاعةً في التاريخ الحديث، وعلى مدى أكثر من 132 عاماً (منذ العام 1830 حتى العام 1962) قدّم الجزائريون أرواحهم فداءً لتحرير وطنهم.
استحقت الجزائر لقب "بلد المليون شهيد" بسبب كفاح شعبها، وخوضه أشهرَ وأشرسَ حروب الاستقلال في التاريخ؛ لذلك ليس غريباً أن يحتوي النشيد الوطني الجزائري على مقطعٍ كامل موجّه إلى فرنسا.
يا فرنسا قد مضى وقت العتاب وطويناه كما يُطوى الكتاب
يا فرنسا إن ذا يوم الحساب فاستعدي وخذي منا الجواب
لَطالما كان المقطع الثالث من النشيد الوطني الجزائري مثار جدلٍ في فتراتٍ تاريخية وحديثة، فقبيل توقيع اتفاقيات "إيفيان" مع حكومة الجزائر المؤقتة وقتئذٍ، التي اعترفت باستقلال الجزائر، اعترض الوفد الفرنسي المفاوض عام 1962 على تلك الكلمات.
طلب الوفد الفرنسي رُفض حينَها، قبل أن يُحذف المقطع في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد خلال ثمانينيات القرن الماضي، ثم يُعاد إدراجه نهائياً عام 1995 بقرارٍ من الرئيس الجزائري الأسبق اليمين زروال.
الذروة كانت في العام 2007، حين صدر قرارٌ رسمي بحذف المقطع الثالث نهائياً من الكتب المدرسية، الأمر الذي أثار استياءً شعبياً واسعاً.
اليوم، وبعدما وقّع الرئيس الجزائري مرسوماً بإعادة إدراج النص المحذوف الذي يهاجم فرنسا إلى النشيد الوطني الجزائري؛ ردّت وزيرة الخارجية الفرنسية على قرار عبد المجيد تبون، معتبرةً أن النشيد قد تجاوزه الزمن.
وينصّ المرسوم، الذي نُشر في مايو/أيار 2023 الماضي بالجريدة الرسمية، على أن النشيد الوطني الجزائري يؤدّى بصيغته الكاملة وبمقاطعه الخمسة- كلمات وموسيقى- في المناسبات السياسية والعسكرية التي تستدعي ذلك.
وخلال تصريحاتٍ لها لقناة LCI الفرنسية، في 16 يونيو/حزيران 2023، قالت الوزيرة كاترين كولونا إن هذا النشيد تجاوزه الزمن، وأضافت: "لا أريد التعليق على نشيدٍ أجنبي، لكنه كُتب عام 1956، في سياق وظرف الاستعمار والحرب، ويتضمن كلمات قوية تعني فرنسا".
فما قصة النشيد الوطني الجزائري كاملاً؟
مؤلف النشيد هو مفدي زكريا، الذي يوصف بأنه أحد "الأبطال القوميين" في الجزائر، واسمه الحقيقي الشيخ زكريا بن سليمان بن يحيى.
وُلد وترعرع في بني أزغن، وهي بلدة صغيرة في منطقة مزاب، بولاية غرداية، وقد درس في جامع الزيتونة الشهير بتونس، قبل أن يبدأ الكتابة عن النضال الوطني لبلاده في مجلات "الوفاق" و"الحياة" و"المجاهد".
دخل العمل السياسي عام 1930، منتسباً إلى اتحاد طلاب شمال إفريقيا، ثم حزب الشعب، قبل أن ينضمّ عام 1955 إلى صفوف جبهة التحرير الوطني، ما كلّفه النفي والتنقل بين خمسة سجون استعمارية.
بدأت قصة النشيد الوطني الجزائري، في أبريل/نيسان 1955، حين كان مفدي زكريا يقبع داخل الزنزانة رقم 69، في سجن بربروس السيئ السمعة في الجزائر العاصمة، فوصلته رسالة من الناشطة رباح الأخضر، بتكليفٍ من الإخوة عبان رمضان وبن يوسف بن خدة، أي آباء الثورة الجزائرية.
ووفقاً للأديب والوزير الجزائري السابق لمين بشيشي، في حوار مع الإذاعة الثقافية الجزائرية قبل رحيله عام 2020، فإن عبان كان وضع أمام مفدي زكريا 3 معايير أساسية لكتابة النشيد الوطني الجزائري.
1- أن يتضمن دعوة إلى الالتحاق بصفوف جبهة التحرير
2- أن يُبرز الوجه القبيح لفرنسا الاستعمارية
3- ألا يتم ذكر أي شخص معيّن
وصلت الرسالة إلى مفدي زكريا في سجنه، حيث لم يجد قلماً أو ورقة لكتابة مقاطع النشيد- التي تُعرف أيضاً بـ"الآيات"- فلم يجد سبيلاً لتدوينها سوى بالدم.
كتب زكريا آيات النشيد الوطني الجزائري على حائط السجن، مستخدماً دمه الذي أساله من يده اليُسرى، ليكتب باليُمنى المطلع الذي يقول: "قسماً بالنازلات الماحقات والدماء الزاكيات الطاهرات والبنود اللامعات الخافقات في الجبال الشامخات الشاهقات نحن ثرنا فحياة أو ممات وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر".
كانت تلك الرواية رائجة في الجزائر عن تاريخ نظم النشيد الوطني، في حين تقول رواية أخرى إن مفدي زكريا استجاب لطلب المجاهدَين عبان رمضان وبن يوسف بن خدة لكتابة نشيد وطني في أقلّ من يومين.
روايتان مختلفتان، مع تفصيل لا يغيّر من حقيقة ثابتة، أن مفدي زكريا (ابن تومرت) هو كاتب مجد الثورة الجزائرية، الذي خلّد اسمه في دفاتر النضال الوطني.
كلمات مفدي زكريا لحّنها محمد فوزي
بعد الانتهاء من كتابة النشيد وخروجه من السجن، عُهد إلى مفدي زكريا أيضاً باقتراح اسم يُمكنه صياغة اللحن بأفضل طريقة ممكنة.
فكانت المحاولة الأولى عام 1957، حين سُجّل النشيد الوطني الجزائري كاملاً في استوديوهات الإذاعة التونسية، بعدما وضع لحنه الملحن الجزائري محمد طوري، ولكن الصيغة النهائية لم تُعجب قادة الجبهة، الذين اعتبروا أنها تفتقد للحماس المطلوب.
فأوكلت مهمة تلحينه مرة جديدة إلى محمد تريكي، الذي سبق ولحن النشيد الوطني التونسي. وفي المحاولة الثانية أدت النشيد مجموعة صوتية جزائرية في تونس، لكنه أيضاً لم يعجب جبهة التحرير الوطني.
وبما أن الثالثة ثابتة، تم اقتراح اسم الملحن المصري الشهير محمد فوزي، وبالفعل أُرسلت الكلمات بشكلٍ سرّي إلى مصر، وبعد أن انتهى محمد فوزي من وضع اللحن أعاد إرساله إلى تونس؛ ليوافق عبان رمضان ورفاقه على اللحن ويعجبهم نفَسه الثوري.
وقد تمّ اعتماد قصيدة مفدي زكريا ولحن محمد فوزي نشيداً وطنياً للجزائر منذ العام 1963، أي بعد عام واحد من انتصار الثورة الجزائرية.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أمرَ الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة بإطلاق اسم محمد فوزي على المعهد الوطني العالي للموسيقى في الجزائر، فضلاً عن منحه "وسام الاستحقاق الوطني" ما بعد الوفاة، تكريماً لدوره التاريخي في صياغة النشيد الوطني الجزائري.