أشار لها الكثيرون بأنها الصوت الذي هدد عرش الست، ولقّبها الموسيقار الكبير رياض السنباطي بـ"قيثارة السماء"، وظلت بصوتها تحلق في سماء الفن كما تشاء، فكانت في مكانة لم يتمكن الكثيرون من الاقتراب منها، هذا الصوت البديع الذي يمزج بين القوة والرقة، فتسمعها وهي تغني جميع الألوان الموسيقية بعذوبة شديدة.
طفولة غير سعيدة
تعددت الروايات حول ميلاد سعاد محمد في منطقة "تلة الخياط" في بيروت، لكن الرواية الشائعة تقول إنها ولدت في 14 فبراير/شباط 1926، ولكن الناقد والمؤرخ الموسيقي اللبناني سليم سحاب يؤكد في كتاباته عنها أنها مواليد العام 1931.
ولدت سعاد لعائلة لبنانية محافظة، وقد تُوفي والدها في سنتها الأولى ولم تعرفه، لكنها ورثت منه أغلى شيء في حياتها، وهو الصوت الجميل، فرغم أنه لم يحترف الغناء فإنه كان صاحب صوت عذب يطرب له كل من يسمعه.
بدأت سعاد في الغناء في طفولتها، وكانت تغني الموشحات وأغاني أم كلثوم، ولكن والدتها كانت تمنعها من الغناء دائماً، وأحياناً كانت تضربها إذا تم ضبطها وهي تتغنى.
لم تكن سعاد في هذا الوقت تلك الشخصية المستقلة أو الحازمة التي يمكن أن تواجه رفض العائلة لغنائها، لكن كان شقيقها مصطفى هو الذي يشجعها لأن تخطو خطوات جادة في عالم الفن، رغم رفض والدته وإخوته وأعمامه لهذا الأمر.
منافسة مبكرة
في أربعينات القرن العشرين انتشرت شائعة بأن أم كلثوم عرفت أن هناك صوتاً عبقرياً يغني أغانيها في بيروت، فسارعت بإرسال الملحن "زكريا أحمد" إلى بيروت ليتعرف إلى هذا الصوت الذهبي الذي وصلت أخباره إلى مصر.
ويَذكر محمد منصور في كتابه "مطربات بلاد الشام" أن الشيخ زكريا أحمد قد التقى سعاد بالفعل في بيروت، وكانت تغني في ملهى التياترو الكبير، وذهبا إلى منزل المطربة صباح، واصطحبت سعاد شقيقها مصطفى معها، وطلب منها زكريا أحمد أن تُسمعه صوتها الذي وصلت أصداؤه إلى القاهرة، فبدأت سعاد في غناء "غلبت أصالح"؛ أغنية أم كلثوم التي لحّنها لها رياض السنباطي، فأطرب الشيخ زكريا بصوتها، لدرجة أنه التقط عوده وبدأ يصاحبها في العزف والغناء، وقال لها قبل أن يغادر: "صوتك هايل، هستنّاكي في مصر لما تكبري".
التحول
تحوُّل حياة سعاد محمد لم يكن في بيروت بل كان في دمشق، والتي كانت تذهب إليها لتغني في مسارحها وملاهيها بشكل مستمر، وهناك تعرفت على الملحن السوري "محمد محسن"، الذي وضع لها ألحانها الخاصة للمرة الأولى: "دمعة على خد الزمن"، "ليه يا زمان الوفا" و"مظلومة يا ناس"، التي كتب كلماتها جميعاً الشاعر محمد علي فتوح، وساهمت هذه الأغاني بشكل كبير في ذيوع صيت سعاد محمد بشكل ضخم.
فتاة من فلسطين
بعد نكبة فلسطين 1948، قررت الفنانة والمنتجة "عزيزة أمير" أن تنتج فيلم "فتاة من فلسطين"، وهو أول فيلم عن القضية الفلسطينية بعد النكبة، وذهب المخرج المصري محمود ذو الفقار إلى بيروت ليبحث عن الفتاة التي ستقوم بدور البطولة، وفي نفس الوقت كانت المنتجة آسيا ترشح سعاد محمد لأداء هذا الدور، وبعد أن استمع ذو الفقار إلى صوت سعاد محمد قرر أن تكون هي بطلة الفيلم، فقام بدعوتها إلى القاهرة لتقوم بدور البطلة، وهو البطل الذي يقوم بلعب دور البطولة أمامها.
بعد عرض الفيلم لم تنجح سعاد كممثلة، لكنها خرجت منه بنجاح ساحق في الغناء، وبسبب أغانيها في الفيلم -ثماني أغانٍ- حقق الفيلم إقبالاً جيداً، وقد لحن تلك الأغاني عباقرة الموسيقى رياض السنباطي وكارم محمود ومحمد سلمان.
ولم يكن "فتاة من فلسطين" هو تجربة سعاد الوحيدة في السينما، فبعد أربعة أعوام قدمت مع المخرج هنري بركات فيلم "أنا وحدي" عام 1952، والذي لحن لها رياض السنباطي أغنيتها الشهيرة "أنا وحدي" التي تحمل نفس عنوان الفيلم.
منعها من دخول مصر
شعرت أم كلثوم بخطر من سعاد محمد، ويذكر المؤرخ الكبير صميم الشريف في "الأغاني العربية"، أن أم كلثوم قد استعانت ببعض معارفها لتلفيق تهمة تهريب مجوهرات خارج مصر لسعاد محمد، ورغم أن المجوهرات التي تم ضبطها مع سعاد في مطار القاهرة هي من ممتلكاتها الشخصية، والتي حملتها معها من بيروت إلى القاهرة، فإنها لم تستطع إثبات ذلك حين دخولها إلى مصر، فكانت النتيجة صدور القرار بترحيلها ومنعها من دخول مصر مرة أخرى.
أغاني فيلم الشيماء
بعد صدور فيلم الشيماء ونجاحه الفائق، اعتقد كثيرون أن المطربة التي غنت الأغاني الدينية في الفيلم هي أم كلثوم، لكن في الحقيقة أن صاحبة الصوت الذي في الفيلم كانت سعاد محمد، وقد غنت مجموعة من أجمل الأغاني الدينية مثل "يا محمد"، "يا رسول الله"، "كم ناشد المختار ربه"، وكانت سعاد تقوم بتدريب الفنانة سميرة أحمد التي قامت بدور الشيماء في الفيلم على حفظ الأغاني وأدائها حتى تتقن أداء الدوبلاج.
3 أزواج و10 أبناء
لم يتم رفع قرار منع سعاد محمد من الدخول إلى مصر إلا في العام 1960 بعد قرار الوحدة بين مصر وسوريا، وطوال تلك المدة اقتصر نشاط سعاد الفني بين دمشق وبيروت.
في تلك الفترة أنجبت سعاد ستة أولاد من زوجها الأول الشاعر محمد فتوح، قبل أن تنفصل عنه وتتزوج في مصر من المهندس محمد بيبرس، الذي أنجبت منه أربعه أبناء، ثم انفصلت عنه أيضاً وتزوجت من اللبناني أسعد مرعي، لكنها لم تنجب منه.
موقف عبد الوهاب من التلحين لها
بعد عودة سعاد إلى مصر شاركت بصوتها في ثلاثة أفلام هي "شهيدة الحب الإلهي" و"الشيماء" و"بمبة كشر"، وحين فكرت في استعادة مجدها السابق في الغناء والتلحين واجهت موقفاً غير مفهوم من الموسيقار محمد عبدالوهاب، الذي كان يعشق صوتها، لكنه كان يتهرب دائماً من التلحين لها، مرة بحجة عدم وجود كلمات، ومرة بحجة عدم تفرغها بسبب كثرة الإنجاب.
لكن بقي رياض السنباطي هو أحد الأسباب الهامة التي صنعت مجد سعاد محمد، فغنت من ألحانه وكلمات أحمد رامي "أنا وحدي"، ومن كلمات إبراهيم ناجي "في الانتظار ولقاء"، ومن كلمات أبي العلاء المعري "غير مجد في ملتي"، ومن كلمات أبي القاسم الشابي الأغنية الشهيرة "إذا الشعب يوماً أراد الحياة"، وقصائد كثيرة جداً لحنها لها رياض السنباطي.
ولاحقاً غنت لفريد الأطرش "بقى عايز تنساني"، ففاقت أداء فريد في هذه الأغنية التي كان قد لحنها لنفسه، وغنت من ألحان محمد سلطان "أوعدك"، ومن ألحان خالد الأمير "وحشتني".
ورغم نشأة سعاد الصعبة ومحطات حياتها المليئة بالعراقيل، فإنها استطاعت أن تصنع مجداً لنفسها باعتراف عمالقة الفن في عصرها، فكان صوتها وإحساسها هما الطريق لدخول تاريخ الغناء العربي والإضافه له، بل والتجديد فيه أيضاً.
سعاد التي رحلت عن عالمنا في الرابع من يوليو/تموز 2011 عن عمر يناهز 85 عاماً بعد صراع طويل مع مرض السرطان، قامت بتحقيق أمنية أخيرة لها والوقوف على المسرح في دار الأوبرا بعد غياب لسنوات طويلة، وقامت بأداء أغنية "هو صحيح الهوى غلاب" قبيل رحيلها، وقاد الأوركسترا في ذلك اليوم الأستاذ سليم سحاب.
وكان صوت سعاد في ذلك اليوم يتحدى كل شيء حتى عمرها الذي قد تخطى الثمانين، كانت تغني وكأنها ابنة العشرين، فظهر صوتها لا يزال محتفظاً بعذوبته يقاوم حداثة القرن الحادي والعشرين وماضيها الأليم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.