"كل الذين وقعوا في الحبّ كانوا يبحثون عن الأجزاء الناقصة من أنفسهم، لذلك كل من يُحبّ يصبح حزيناً عندما يفكر في محبوبه، الأمر يشبه العودة بعد زمن طويل إلى غرفة تحمل كل ذكرياتك".
كان تعريف الكاتب الياباني "هاروكي موراكامي" للحب هو ميثاق المشاعر الذي وقعه الشاعر أمل دنقل مع الصحفية عبلة الرويني، تلك الفتاة الأرستقراطية التي قال عنها: "إنني لا أبحث فيك عن الزهو الاجتماعي، ولا عن المتعة السريعة العابرة، ولكني أريد علاقة أكون فيها كما لو كنت جالساً مع نفسي في غرفة مغلقة".
كان مقهى "ريش" الثقافي الشهير بوسط القاهرة هو المكان الأول الذي جمع بين الشاعر المصري أمل دنقل وزوجته الكاتبة الصحفية عبلة الرويني، ذهبَت إليه في ذلك اليوم لتجري معه حواراً صحفياً لجريدة "أخبار اليوم"، التي كانت تعمل بها، عام 1975.
ومنذ اللقاء الأول أصابت سهام الحب قلب كل منهما، كانت شهرة أمل في ذلك الوقت ذائعة، بينما كانت عبلة صحفية شابة في بداية الطريق، إلا أن الأقدار شاءت أن يشهد هذا اليوم مولد قصة حب غريبة ومختلفة في تفاصيلها عن جميع قصص الحب التقليدية.
ورغم أن أمل دنقل -الذي عاصر أحلام العروبة والثورة المصرية وأسهمت في تشكيل نفسيته وصُدم كجميع المصريين بنكسة 1967- كان من الأسماء غير المرحب بها في صحيفة الأخبار الحكومية، نظراً لأفكاره اليسارية المعارضة لنظام الحكم في ذلك الوقت، فإن عبلة نجحت في نشر حوارها معه، وكان الحوار الأول والأخير الذي نُشر لأمل في "الأخبار"، بعدها استمرت علاقة الصحفية الشابة بالشاعر الكبير، وتوالت بينهما اللقاءات داخل مقهى "ريش"، وصارا صديقين.
وكان أمل لا يميل كثيراً إلى مصاحبة النساء، الأمر الذي جعله في لقائه الرابع بعبلة يقول لها، ومن دون مقدمات كما تروي هي في كتابها "الجنوبي" عن سيرة أمل دنقل: "يجب أن تعلمي أنك لن تكوني أكثر من صديقة"، ما أثار استفزازها، فردّت عليه قائلة: "أولًا أنا لست بصديقتك، كما أنني لا أسمح لأحد بتحديد مشاعري متى تتزايد أو تتناقص، إنني وحدي صاحبة القرار في علاقاتي بأصدقائي"، وهو ما جعل أمل -كما تروي الرويني- يضطر إلى التراجع وإلى إظهار بعض مشاعره، حينما راح يفكر بصوت مسموع قائلاً: "إنني رجل بدأت رحلة معاناتي في سن العاشرة، وفي السابعة عشرة اغتربت عن كل ما يمنح الطمأنينة حتى الأبد، وأعتقد أن السهم الوحيد الذي يمكن أن يصيبني في مقتل سوف يجيء من امرأة، ولذلك اتسمت علاقاتي دائماً بالرفض، كنت أستغرق في الحب لكنني في صميمي كنت هارباً من التمسك بها".
وفي هذه اللحظة باح دنقل ببعض مشاعره، وتحدث عن رغبات عبلة -الأرستقراطية- في الشعور بالقلق، وتحدث كذلك عن حياته التي لم تعرف أبداً الاستقرار، تقول عبلة: "تحدث عن أشياء كثيرة غير مترابطة في هذا اللقاء، بينما كنت أنا أشعر بفرحة غامرة، فرحة ميلاد عاطفة جديدة، فمن المؤكد أن أمل أحبني، وأن غضبي لعبارته يعني أنني أحمل نحوه المشاعر نفسها".
وتصف عبلة لحظة وداعها لدنقل بعد هذا اللقاء الساخن قائلة: "سألني وهو يمد يده مصافحاً: هل أراك غداً؟ فأجبته: بالتأكيد لقد أحببتك، وفي هذه اللحظة تقول عبلة مد أمل رقبته إلى أعلى حتى لا يمكنني رؤية وجهه الذي ارتسمت عليه شبه ابتسامة خجول، ومضى دون أن يعلق بكلمة واحدة".
وتشرح عبلة الصعوبات التي واجهت إتمام زفافها من أمل قائلة: كانت المسافة كبيرة بين عالمي وعالم أمل في صورتها الظاهرية، فقد كنت أنتمي إلى أسرة محافظة وثرية وإلى منزل هادئ، كما أن طفولتي كانت قادمة من أيدي الراهبات الفرنسيات. كنت أمتلك الكثير من الأشياء والكثير من التدليل للابنة الوحيدة بالأسرة، بينما كان أمل ينتمي للريح والاضطراب، فبالرغم من عزوة عائلته وقوتها وثرائها كان دائماً لا ينتمي إلا إلى نفسه، عرف معنى الرجولة مبكراً حينما توفي والده وهو لايزال في سن العاشرة، فكان رجل البيت الذي تولى شؤون أمه وأخواته.
كان أمل ينتمي إلى الشوارع، والحواري والأزقة والطرقات، حتى إنه ذكر يوماً أن تاريخ الأرصفة هو تاريخه الشخصي، كل هذه الفوارق بين أمل وعبلة -على ما يبدو- أدت إلى وجود بعض العقبات في طريق إتمام زواجهما، لكنهما تغلبا عليها وتم الزواج.
وتصف عبلة الحياة بينهما بعد الزواج فتقول: "كان أمل يستيقظ ظهراً، وكنت أصحو قبل ذلك بكثير حتى يمكنني الذهاب إلى جريدتي والعودة قبل استيقاظه، كمن هي على موعد غرامي جديد، فقد كنت أشعر دائماً بفرحة حضوره وأحرص على تواجدي معه".
كلّما قرأت وتعمقت أكثر في رسائل الغائبين من العشاق القدامى أجد أن للحب سراً عظيماً يصنع المعجزات، طلاسم المشاعر وتعويذات الخلود والتضحية في ذات الحبيب، تلك المعاني التي قال عنها غسان كنفاني لغادة السمان:
"أحبك إلى حدّ أستطيع أن أغيب فيه بالصورة التي تشائين، إذا كنتِ تعتقدين أن هذا الغياب سيجعلك أكثر سعادة".
أراها في مقدار حب جبران خليل جبران عندما كتب إلى مي زيادة -التي لم يرها قط طيلة حياته-: "أرى في حديثك ما يجعلني أعشقك للأبد، فما بالك بلقائك؟".
بتصريح الخوف في كلمات كافكا إلى ميلينا، اللذين تبادلا رسائل الحب بينهما فقط بعد أن قامت بترجمة إحدى رواياته:
"لن تستطيعي البقاء إلى جانبي مدّة يومين، أنا رخو، أزحف على الأرض، صامت طول الوقت، انطوائيّ، كئيب، متذمر، أناني وسوداوي، هل ستتحملين حياتي كما أحياها؟".
عرفت معنى الانتظار من الكاتب فلاديمير نابوكوف وهو يتحدث مع فيرا زوجته: "أحبك، أريدك، أحتاجك بشكل لا يطاق، لقد دخلتِ حياتي، ليس كما يدخل الزائر، بل كما ترجع الملكات إلى أوطانهن، وجميع الأنهار تنتظر انعكاسك وجميع الطرق تنتظر أقدامك".
كل هذه المفردات التي خلّدت من خلالها كل قصص الحب التي نعيش الآن على حكايتها وكأنها الدستور الذي نحاول تنفيذه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.