استحوذت عليَّ تماماً، أعدتها مرة واثنتين وعشراً، وحمّلتها على الهاتف، وكلما ركبت الحافلة شغلتها وسرحت مع الشارع، وأعود إلى المنزل في المساء فأسمعها مرة أخرى قبل النوم، لا أذكر تحديداً كيف عرفتها، لكن أغلب الظن أنه عن طريق الفيسبوك، ربما شارك أحدهم جملة منها هنا أو هناك، لكن الذي أذكره فعلاً هو أني حينما تحدثت عنها شاركني الجميع حبها، وأخذنا نردد كلماتها معاً:
"متفوتنيش أنا وحدي أفضل أحايل فيك.. متخليش الدنيا تلعب بيا وبيك.. خلِّي شويه عليَّ وشوية عليك".
سيد مكاوي، الذي تحل علينا الذكرى الرابعة والعشرون لرحيله عن عالمنا. الطفل الذي ولد في حارة السقايين فتشرّبت أوردته حُب الحارة، وتشبّعت أجهزته بحب أهاليها، الذي أحبّ مصر حتى بات خروجه عن نص الغنوة المصرية أو محاولة كتابته أغنية لأي مطرب غير مصري أمراً مستحيلاً.
تقول الحكايات إن والد مكاوي توفي وهو طفل صغير، وقد أحبه كثيراً وتعلق به، حتى ابيضّت عيناه من الحزن حين فقده، وفقد نظره حزناً عليه، وتقول حكاية أخرى إنه لم يفقده حزناً على أبيه، بل بسبب تأخر الطب في هذا الزمان، فعجز عن إعطائه الوصفة السليمة لشفائه، لكن في كلتا الحالتين لقد كانت مأساة، فهو لم يتعرض فقط لفقدان البصر، بل كذلك أصبح على عاتقه إعالة أسرته، وكان حسن الصوت، ودرس التجويد، فأصبح يعمل مقرئاً للقرآن، حتى حانت منه التفاتة متلصصة على ما يُسمى بـ"المزكاتية" والموسيقى، وعرف السيد درويش فأحبه وأحب غناءه وتعلق به، فاختار أن يُلحن ويغني.
ولم يكن يخطر ببالٍ أن الولد الشقي الذي لم يمنعه العمى عن الجري والشيطنة والشعبطة في مؤخرات العربات، والجري وراء الأراجوز، وخلف مزازيك الأفراح، في حواري السيدة نفيسة والسيدة زينب، سيصبح يوماً ما من أهم ملحني مصر وأكثرهم حفاظاً على مكتبتها الموسيقية، فقد كان خليفة للسيد درويش في الحفاظ على أصل الأغنية العربية، ولم يسعَ خلف التجديد وإدخال الآلات الغربية كعبدالوهاب والسنباطي، ولم يسعَ كذلك كثيراً في طريق الأغنية الفردية، فكان أكثر الإرث الذي تركه لنا في المسرح الغنائي.
سيد مكاوي وفؤاد حداد
لحّن مكاوي أكثر من لحن من شعر فؤاد حداد، أغلبها من نوع الأغنية الوطنية. وقد كان فؤاد شاعراً قديراً ومعتزاً بنفسه، ولم يكن يسعى أبداً لترويج شعره، ولم يعطه أحد الفرصة للظهور، وبهذه الطريقة المؤسفة لم يُعط قدره سوى بعد وفاته، ولكن ربما يكون عزاؤه هو أن شعره خالد الآن، ويتداول الشباب الصغير حتى على وسائل التواصل الاجتماعي جملاً من قصائده. فترى الأحبة يتبادلون "حمل الليالي خفيف لما يشيلوه اتنين"، وحين يغيب الحبيب يلمحون إلى ذلك بقوله "شباك حبيبي بقاله نظرتين مقفول.." وتغازل الفتاة حبيبها بـ"وبسمته لما يسكت حبتين تهبل.." و"لو ابتسملي يبقى الباقي مش لازم"، ويكتب الناقم على الدنيا "الناس بتاكل بعض.. مش واكل" وغيرها من الجمل التي وجدتها الأجيال الجديدة قصيرة، لكنها بليغة وتعبر عما يشعرون به تحديداً.
وهل هناك دلالة أكبر من أن تكون كلماتك ملائمة لكل زمان ومكان على أنك كنت شاعراً عظيماً؟ لكن للأسف الخجل أحياناً والتواضع في الكثير من الأحيان يضيع فرصاً ذهبية، فبحسب ما حُكي في صحيفة الدستور قبل نحو عامين، في إحدى جلسات العود التي اجتمعت فيها السِّت أم كلثوم وسيد مكاوي، أخبر مكاوي ثومة عن شعر فؤاد حداد، فقالت إنها تحب شعره وتريد أن تغني من كلماته، وطلبت منه أن يجعله يتصل بها، وحين وصل فؤاد الخبر طار من الفرح، واتصل بها من عند خردواتي، وبعدما أثنت ثومة على شعره وقالت له الجملة التي عنونت بها الدستور مقالها: "ربنا يخليك لمصر"، طلبت منه أن يُرسل إليها شعراً، فأرسل لها أغنيتين، وهذا أمر لا يحدث أبداً أن يترك حداد للمطرب حرية الخيار بين قصيدتين، لكن ما حدث هو أنه خجل من أن يسأل مكاوي إذا كان قد أوصل القصائد لثومة أم لا، وطارت الأيام، ورحلت أم كلثوم قبل أن تغني من كلمات أبو الشعراء. وامتد التعاون بين حداد ومكاوي حتى أوبريت المسحراتي، حيث كتب حداد سيناريو نحو ثلاثة مواسم رمضانية إذاعية كاملة منه، وتحولت بعض منها إلى حلقات تلفزيونية كان بطلها مكاوي نفسه بجلبابه وطبلته ونظارته.
سيد مكاوي وصلاح جاهين
تقول أميرة سيد مكاوي في أحد اللقاءات التلفزيونية، إنها كانت تظن حتى سن متأخرة أن مكاوي وجاهين إخوة، وأنه عمها فعلاً، حتى اكتشفت بعد ذلك أن هذا ليس حقيقياً، وأنه أخوه لكن ليس من النسب، وأنه صديق عمر والدها، فقد غنى مكاوي الكثير جداً من أغاني جاهين، ويحكي الصحفي ڤكتور سحاب في مقال منشور في جريدة الحياة، أن الصديقين اجتمعا في مصر، واجتمعا لمرة أخيرة في مستشفى لبنان، ولم يفترقا حتى بعد الموت، فقد مات جاهين ومكاوي كلاهما في نفس اليوم الموافق 21 من نيسان (أبريل)، غير أن جاهين سبق مكاوي بنحو 11 عاماً، ولم ير أحد مكاوي حزيناً وفي كرب بعد أبيه سوى عند وفاة رفيق عمره.
سيد مكاوي وعبدالحليم
حين سُئل مكاوي في لقاء تلفزيوني مع مذيع لبناني عن المطربين الذي لحّن لهم قال: "أنا لحنت لكل المطربين تقريباً إلا عبدالحليم، هو الوحيد اللي كان نفسي ألحن له وملحقتش"، وحين سئل عن سبب عدم مناقشته الأمر أو عرضه على حليم، قال إنه لا يلتزم بلون معين في التلحين، فهو يلحن بداية من مونولوجات شكوكو حتى أغاني الست أم كلثوم، وقد لحن لها أغنية "يا مسهرني"، لكن من يتعامل معهم حليم من الملحنين لا يستطيعون سوى تلحين الأغنية القصة أو الأغنية الإذاعية، وهو يحب أصدقاءه الملحنين جداً، وأن يلحن لحليم يعني أن واحداً منهم سيفقد عمله لمدة عام كامل حتى ينتهي الموسم، وهو ما لا يرضاه أبداً. والجدير بالذكر أنه يقول عن نفسه إن أفضل حسناته هو حبه الشديد للخلق، والتفاني في عمل ما يحبونه، حتى إنه يقول إنه أصبح يكثر من الغناء بنفسه بدلاً من التلحين لأنهم طلبوا ذلك.
سيد مكاوي وفيروز ومصر
لحّن مكاوي للست أغنيتين، أولاهما كانت "يا مسهرني"، والثانية كانت "أوقاتي بتحلو"، لكن القدر استعجل بالست ففاتته وأغنيته وحيداً، فسافر إلى بيروت طالباً الوساطة لعرضها على فيروز، لكن فيروز رفضتها، لأنها أغنية مصرية جداً، لا يفهمها سوى أهل مصر، وليست من نوع الكلمات التي يمكن أن تغنيها فيروز في بلدتها ولأهلها، فأعطى الغنوة لوردة الجزائرية، وبرغم أنه احتجز في مشفى في بيروت بعدما تملك منه التعب ويئس أهله من شفائه نظراً لتأخر الحالة، فإن روحه لم تفارق جسده إلا بعدما عاد إلى مصر، وعندما حلت ذكرى اليوم الذي فارقت فيه روح صديق عمره صلاح جاهين جسده.
لا يمكن أن تمحى ذكرى السيد مكاوي من الذاكرة، ولا يمكن أن تطالها يد ذاكرة النسيان أبداً، كيف ذلك وهو حاضر دائماً بأوبريت العيلة الكبيرة، الذي كلما حاول أحدهم ترميم نسخة بتلحين جديد لها ترى الكل يعود إلى النسخة الأصلية منه من تلحين مكاوي، وكيف ذلك ونحن نتذكر دائماً جملة المسحراتي بصوته: "وكل شبر حتة من بلدي… حتة من كبدي.. حتة من موال"، كيف ذلك وشعراء اليوم أنفسهم يذكرونه في أشعارهم ويتغنون بشعره. ففي ملحمة زينب المُرسخة في ذهن كل من يسمع الشعر من الشباب هذه الأيام للشاعر "أحمد الطحان" يقول: "ويفضل عم سيد يقطع في الوريد من غير تفاهم.. متفوتنيش أنا وحدي.. متفوتنيش وياهم".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.