هناك دائماً هذه الأسطورة التي لا نعلم متى بدأت أو ما هو مصدرها، أن على الموهوبين أن يكونوا غريبي الأطوار، بشعر أشعث وشوارب طويلة وحركات أصابع مضطربة وتصرفات غير محسوبة.
رغم أن عدد الفنانين على مر التاريخ الذين كانوا يعانون من أعراض مشابهة يمكن حصرها جميعاً في مُؤَلف متوسط الحجم، نعم كان هناك موهوبون أسطوريون مثل فنسنت فان غوخ وفرانتس كافكا، وديستويفسكي الذين عرفوا بكآباتهم ونظرتهم الواقعية التشاؤمية. لكن على الجانب الآخر هناك مبدعون كثيرون كانوا أناساً طبيعين يعيشون حياتهم بمنتهى النمطية إلى حد التساؤل كيف يمكن تواجد الإبداع في حياة واحدة مع هذا الكم من الملل؟ إلا إنه يُوجد، لأن الإبداع غير مشروط أبداً بالغرابة!
هذه هي الفكرة التي يطرحها فيلم "في السابع والعشرين من مايو لهذا العام"، للمخرج والسيناريست مصطفى مراد، والذي حاز أكثر من خمس عشرة جائزة عالمية ومثّل مصر في كثير من المهرجانات الأجنبية. وعرض لأول مرة في مصر وشمال إفريقيا في اليوم الثاني من مهرجان الإسكندرية للأفلام القصيرة.
يحكي الفيلم عن رجل عجوز يعود إلى بيته في حيه القديم بعد غياب دام لثلاثين عاماً، يفتتح السيناريست الفيلم بحديث الرجل مع نفسه: "ربما تكون هذه هي فرصتي الأخيرة، ربما أستطيع، ربما أفشل، ولكنني حتماً سأدرك الحقيقة، محكوم أنا بالعودة، تأخذني رهينة الوصول، لذا سأصل حاملاً حقائبي، مرتدياً بنطالاً بلا لون، وحذاءً يشبهني، هذا أنا، في السابع والعشرين من مايو لهذا العام".
يتناول الفيلم فكرة الفنان -وهو بشخصية كاتب في هذا الفيلم- المهووس بذاته، وتتمحور حياته حول فنه فحسب، حتى إنه يبدأ في محاولات تقمص شخصية الكاتب الغامض، ومحاولات إقناع كل من حوله بأنه إنسان فريد ومن نوع خاص.
يقوم الصحفي الشاب في الفيلم بعزل الفتاة التي أحبها بعد الزواج عن كل الأقارب والمعارف والأصحاب، يحبسها داخل زنزانة أفكاره ومخطوطة روايته فقط، روايته التي بطلتها هي زوجته، ولأنه مهووس برواية "عواطف" زوجته، فإنه يبدأ في تقمص حالة الكاتب المتهور الذي يتعامل مع ملموسات وجمادات الواقع على أنها أجزاء من الرواية وفصول من القصة.
تبدأ الزوجة في محاولات للفت نظر زوجها لما تعانيه من الوحدة والكآبة، لكنه لا يلتفت سوى لأمر حكايته، ليقودها الأمر في النهاية إلى الانتحار، لكن من التي انتحرت، عواطف القصة أم عواطف الإنسانة؟
يقوم المخرج بعمل تشابك مذهل بين الرجل العجوز الذي يحاول العودة إلى ذاته وبين حياته كشاب مع زوجته في مقتبل عمره قبل ثلاثين عاماً، يقف عند المواقف التي كان يتبنى فيها قناعات مهووسة تدور حول نفسه ويملي عليه أن يصححها، ويخبره بأنه كان على خطأ حين حاول الظهور بمظهر الكاتب المختل ظناً منه أن هذا سيحقق له المجد.
ليكتشف في النهاية حين يعود إلى ذاته أنه ليس أكثر من مجرد إنسان عادي وأنه كان يخدع نفسه قبل الجميع.
اختيار الممثلين كان مذهلاً، "مشخصاتية" متمكنون تماماً من تجسيد الحالة، كما تم مراعاة وجود تشابه في الملامح بين الرجل العجوز في الزمن الحاضر وبين الشاب من الماضي لأنهما في النهاية وجهان لعملة واحدة، ويمثلان نفس الشخص.
اختيار مكان التصوير مفعم بالعناصر التي تتضافر جميعاً مؤدية وظيفتها في إدخال المشاهد في حالة الفيلم، الحالة الرثة القديمة للشقة والماء المترب والملابس القديمة الطراز والصور الأبيض والأسود.
في نهاية الفيلم يُهدم تابلوه أن الغرابة شرط لوجود الموهبة، ويمكننا كذلك الاستدلال بحياة أديب نوبل نجيب محفوظ على فكرة الكاتب، موظف إداري سلك المسلك الطبيعي لكل البشر في الحياة، التعلم والعمل والزواج، يتعامل مع العامة ويحدثهم ويحدثونه، بل إن وجوده في هذه البيئة الخصبة بالحكايات هو ما ساعده على خلق شخوص متقنة في قصصه وبث الروح فيهم، وكان حينما يُسأل عن مصدر إلهامه بشخصياته يقول إنهم من الحواري والأزقة التي عاش فيها طوال عمره، هذه حياته فمن أين له بشخوص أخرى؟
يمكن أن نقول إن الفيلم حاول أن يعبر عن رسالة كتبتها إحدى الكاتبات: "إن الحزن يصنع فناً جيداً، لكنه لا يخلق حياة طيبة".
وكذلك وهم الغرابة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.