إنها تحتل قلبي، تتصرَّف فيه كما لو كان بيتها، تكنسه وتمسحه وتعيدُ ترتيب الأثاث وتقابل فيه كل الناس. شخصٌ واحدٌ تتهرب منه؛ صاحب البيت.
لو يعلم كامل الشناوي أن وصفه لنجاة الصغيرة -في إحدى نوبات عشقه وحديثه الملهم عنها في خواطره- سيتمدَّدُ في قلوبِ كلِّ المفارقين على هذا النحو لربما تأنَّى قليلاً؛ كي لا يحمل ذنبَ كل دموعِ هؤلاء حين يتذكَّرون.
كامل الشناوي كتب: "لا تكذبي إني رأيتكما معاً"، بعدما رأى نجاة الصغيرة في سيارةٍ مع يوسف إدريس تحت منزلها في جزيرة الزمالك، ذهب بعدها لمنزل مصطفى أمين وكتب القصيدة في بيته وهو (ينتحب)، حسب وصف الصحفي الكبير، وبعدها صمَّمَ أن يتَّصل بها ليقولها لها بنفسه، كان يتنَهَّدُ ويزفرُ بشكلٍ قالَ عنه مصطفى أمين: "قطَّع قلبي".
كل محاولاته لإخفاءِ تأثره كانتَ حفراً في ماء؛ فردَّت عليه بمنتهى البرود:
– كويسة قوي يا كامل، تنفع أغنية، لازم أغنيها!
مصطفى أمين لخَّصَ حالة كامل بعد هذا الموقف في جملة بديعة جداً:
لقَدْ قَتَلَتْه! ولمْ يبقَ إلا موعد تشييع الجنازة.
حتى إنه يُحكَى عن الشاعرِ المشبوكِ في فقدِه أنه أصبح يتردَّد على المقابر كثيراً بعدها، ولما سأله مصطفى أمين عن السبب، قال له:
– أريدُ أن أتعوَّدَ على الجو الذي سأبقى فيه إلى الأبد.
كامل الشناوي كان أكبرَ من نجاة بثلاثين سنة، هو من اكتشفها وقدَّمها وكان يعشقها عشقاً أفلاطونياً قاتلاً؛ لكنَّه لم يعترف لها بهذا الحب.
لدرجة أنه في عيد ميلادها سنة 62 كان هو من جلب لها هدايا الحفل وجهَّزَه من الألف إلى الياء، لكنها اختارت يوسف إدريس لإطفاء الشموع وتقطيع تورتة الاحتفال، وقالت له في نهاية اليوم ببرود:
– شكراً يا كامل، تعبتك معايا.
فانسحب بهدوء؛ مخاطباً نفسَه في مذكراته عن تلك الليلة:
– افهميني على حقيقتي! إنني لا أجري وراءكِ، بل أجري وراء دموعي.
وكان خطابه لقلبِه من أجمل ما قيلَ في حديثِ إنسانٍ لهزيمته:
– احتشم يا قلبي فالحب طيشٌ وشباب، وأنتَ طيشٌ فقط.
الموسيقى التصويرية لحياة كامل بعد هذه الليلة كانت القصيدة التي كتبها لعبد الحليم حافظ عن نجاة يقول فيها:
حبيبها.. لست وحدك حبيبها
حبيبها أنا قبلك، وربما جئت بعدك
وربما كنتُ مثلك!
فلم تزل تلقاني، وتستبيحُ خداعي
بلهفةٍ في اللقاء، برجفةٍ في الوداع
بدمعةٍ ليس فيها.. كالدمعِ إلا البريقِ!
وليلة (كويسة قوي يا كامل، تنفع أغنية) كانت نعشَهُ الذي ينتظرُ فقط أن يُحمَل!
مصطفى أمين لخَّص شعور نجاة نحو كامل قائلاً:
– كان كامل يحاول بأي طريقة أن يعود إليها؛ يمدحها ويشتمها، يركع أمامها ويدوسها بقدميه، يعبدها ويلعنها، وكانت تجدُ متعةً في أن تعبث به، يوماً تبتسم ويوماً تعبس، ساعةً تقبل عليه وساعةً تهرب منه.. تطلبه في التليفون في الصباح، ثم تنكر نفسها منه في المساء.
وكأنَّ هذا البكاءَ المكتوب قد وصل لكامل، كان يعرفه وينكره بينه وبين نفسه، ووصَفَها مرةً حين رأى أحد معجبيها يتودَّدُ إليها:
– إنها كالدنيا. لا تبقى ولا تتجدد إلا إذا خرج من حياتها أناس، ما أكثر الذين شاهدتهم وهم يغادرونها وما أكثر المواليد الذين رأيتهم على بابها.
الغريب في هذا كلِّه أن جبل الأحزان المُكَوَّنَ من لحمٍ ودم هذا كان أشهر (ابن نكتة) في الوسط الثقافي والفني في مصر، النكتة التي كان يقولها كامل الشناوي كانت تُلاكُ على الألسنة كأنها أغنية لأم كلثوم، قبل ما يمتَصُّه حبه، حتى إنه في مذكراته سخرَ من نفسه بكوميديا سوداء قائلاً:
– إن أصدقائي في مرحلة الشباب كانوا يتخوّفون من وضع الكولونيا على رؤوسهم لأنها تُعجِّل بالمَشيب، بينما نجوت أنا من المَشيب لأني كنت أغسل شعري بالكولونيا.. إن الشيء الوحيد الذي جاملني فيه الزمان هو سواد شعري.
كامل مات مكتئباً وحيداً بدون زوجة أو ولد بعد أن فاته القطارُ بانتظار حبيبة عمره، مات بالحزن بعد زواج نجاة من المخرج حسام الدين مصطفى، وكانت هذه كلماته قُبَيْلَ موته:
– ولكن أيامي اليوم قليلة، وانتزاعُ عامٍ منها يشعرني بالفقر والفراغ والعدم، فمنذ تجاوزتُ الأربعين وحدي كما تجاوزت ما قبلها، لا صحة ولا مال ولا زوجة ولا ولد ولا صديق. ولكن لماذا نبكي الحياة؟ وماذا لو رحلَتْ عنا أو رحلنا عنها؟ ما دام الرحيل هو الغاية والهدف!
لو أن لحياةِ كامل الشناوي أن تُلَخَّصَ بجملةٍ لكانت حديثاً لقلبه:
(أما كان أفضلَ لكليْنا لو تحشَّمت!)
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.