صديقي "علوش الغالي" عازف الكمنجة المدهش، ورفيق طفولتي وصباي، كلما اشتاق لي يذهب لزيارة قبر أمي، يشرب نخبها، ونخب ذاكرتنا الأولى، يعزف لها إلى أن تتقطع أوتار الكمان، وتدمى أصابعه، يقرأ لها ما أكتب لها وعنها، يقبل رأسها ويخبرها همساً: "بتقلّك رغدة أنها اشتاقت لريحة الحبق ع قميصك…".
يُقال إنَّ الموت لا يُفاجئ المتوفى، الذين يفاجَؤون هم المحيطون به، أما الذي ينقطع حبل الوصل بينه وبين الحياة، تهمس في أذنيه الدنيا بأنه آن الأوان، وأنَّ المرء بقليل من التركيز في أعين الشخص، قد يتمكن من رؤية اللون الرمادي يجوب الأجواء، يفرض سيطرته على المكان. فهل كنت تعلمين.. يا رغدة.. أنه حان الوقت، ليكون آخر ما تنشرينه على صفحتك هو صورة قبر أمك المتوفاة؟ هل أخبرك الموت بأنه آتٍ ليأخذك إلى أمك؟
في الثالث والعشرين من مارس، في باريس، مدينة الحُب، رحلت من احتالت على الموت بالحُب، وأخرجت من جوف المأساة قصة رومانسية جميلة، وأغنيةً وأشعاراً.
رحلت رغدة، وبقي شِعرها، وحكايتها..
بدايات رغدة
رغدة حسن، مناضلة وكاتبة سورية، فارقت عالمنا منذ أيام عن عمر ناهز الخمسين، تاركةً وراءها، رواية، ومشروع حكاية، ومئات القصائد. وُلدت رغدة في مدينة جبلة على ساحل سوريا، وصار البحر صديقها المقرب. عشقت أرض الوطن، ومنذ المرة الأولى التي عرفت بها أنها إنسانة، وأنها تملك حق الاختيار، قررت أن تختار القضية، وظلت حتى آخر نفس فيها تناضل لأجلها.
تربت في أزقة سوريا مع أخويها "أحمد" و"مُنذِر" وأختها "أريج" ووالدتها، بينما انفصل والدها بحياته بعيداً عنهم. درست في مدرسة سعد بن أبي وقاص الابتدائية، كما حصلت على الشهادة الإعدادية والثانوية. ولكنها مُنعت من حقها في كرسي بالجامعة بسبب رفضها وإخوتها من قبلها الانضمام إلى حزب السلطة.
لم تستطع صديقاتها من الصبايا رفض الانضمام للحزب خوفاً من النتائج المتوقعة، لكن رغدة أعلنت رفضها للانضمام أمام المدرسة بأكملها! كان أخوها الكبير منذر هو أول من أدخل الفكر الماركسي ومعارضة النظام إلى المنزل، فكبرت رغدة وشبت على رفض ديكتاتورية نظام الأسد.
منذ اليوم الأول عرفت رغدة أن ما يحدث بالبلاد ليس هو ما يجب أن يحدث. منذ الأول كان همها الوطن والهوية وقيمة الإنسان. وفي بداية عملها السياسي في عمر العشرين، كانت تتجمع وأخواها والأصدقاء ممن يشاركونهم ذات الهم في أحد البيوت، يثقفون أنفسهم بالقراءة ومحاولات الفهم والتحليل، وكان نضالهم بالقدر الذي تسمح به أعمارهم، فكانوا يكتفون بتوزيع المنشورات التي تعارض نظام الأسد. وبعد فترة توسعت علاقاتهم، وانضموا لمجموعة أكبر ممن يشاركونهم نفس الحُلم.. هذه المجموعة هي حزب العمل الشيوعي.
اعتقالها
تعرضت رغدة لتجربة الاعتقال مرتين، مرة وهي في العشرينات من عمرها، بعد انضمامها للحزب بفترة.
تحكي الشاعرة رغدة أنها شعرت بمن يتتبعها طيلة يومين، وحين حكت لأخيها أحمد قال إن النظم الأمنية والمخابرات لا تتبع هذه الطريقة للقبض على المناضلين، وكان يطمئنها، لكنه لم يكن يعلم أنها على حق..
تحكي رغدة عن هذه الليلة فتقول:
"كُنت نائمة بغرفتي في بيتٍ مُجمع، نعيش به عدد من أفراد حزب العمل، لم نكن نستطيع العيش في بيوت مستقلة بسبب الملاحقة الأمنية والأسماء الحركية، فكنا نعيش كمجموعات. كانت الساعة الثالثة صباحاً، وشعرتُ بشيء بارد على وجهي، فتحت عينيّ لأرى نحو عشر مسدسات مصوبةً نحوي، وفكرتُ؛ ما الجريمة الشنيعة التي ارتكبتها ليتم انتهاك حرمة غرفتي بهذا الشكل الهمجي؟ يعني بلحظة واحدة يتم استباحة حياتك بأكملها! طبعاً كنا جميعاً نعد نفسنا لهذه اللحظة، لم يكن أمراً غير متوقع، لكن لم تكن لدي فكرة أنها ستكون بهذه الصعوبة.
أخذوني وأخذوا أحمد، تم دفعنا إلى مكان تحت الأرض، وفور دخولي رأيت أجساداً لرجالٍ عرايا معلقة على الأبواب، وجسداً لامرأة، وفور أن ألقيت نظرة ربطوا عصابة على عيني، وكنت قد خرجت من المنزل مكبلة اليدين والقدمين بالأصفاد، ثم أدخلوني إلى غرفة مغلقة، وتركوني. جلست واسترقت السمع لأصوات التعذيب بالخارج، أناس يصرخون ويتوسلون لإيقاف التعذيب..
"بيكفي أرجوكم رح أموت".. وأنين المرأة المُعذبة.. لكن أكثر ما أفجعني، أنني سمعت صوت منذر يئن.. من سياط الجلادين.
لطالما قامرتُ على قضايا أؤمن بها. ولم أكن أملك سوى حياتي
رغدة والمخابرات السورية
حين سُئلت الفقيدة عن سبب قول البعض إن تعامل المخابرات السورية كان مختلفاً معها عن تعاملهم مع باقي أفراد الحزب، قالت إنها حقيقة، وذلك لأنها لم تبك ولم تصرخ.
قالت: "هذه طبيعتي حين أتعرض لأي عنفٍ جسدي، ولدى الجلادين قناعةً بأن الشخص الذي لا يبدي ردة فعل يكون هو صاحب أكبر قدر ممكن المعلومات. ولم تكن لدي فكرة عن أي شيء يبحثون، يسعون وراء شيء لا يعلمونه، رقم هاتف، اسم، أي قصاصة. وفكرت بأن هذه فقط هي طريقة تعاملهم مع الرفض، رفض الانضمام إلى القطيع، بدون ارتكاب أية جرائم أخرى"!
الأصعب من أن تتعرض للقهر أن يتعرض من تحبهم له، وأن تقف عاجزاً مكبلاً بالسلاسل لا تملك نفسك حولاً ولا قوة، ولا تملك شيئاً تمد به من تحبهم. بماذا فكرت رغدة وهي تستمع يومياً لأصوات السياط تكوي جلود أصدقائها؟
من الممكن أن تكون قد صمت أذنها عن أصواتهم، وخلقت في خيالها بيانو أو القيثارة، وعزفت عليها لحناً عذباً سمّته الحرية. وكلما حاول سجانها تذكيرها بأنه لحن الموت.. قاومت بشدة وقالت إنه للحرية. فهي تحفظه جيداً ولطالما أجادته.. ربما حتى قبل أن تولد.
تحكي رغدة: "في هذه الأثناء يكون التواصل بيننا عبر التخاطر، أي إشارة روحية تخرج من أحد منا تصل إلى الآخرين، بأن كن قوياً، لا تفصح عن كذا، لا تفقد مقاومتك، ويكون شعور الواحد منا أنه تماماً.. كما ذكرت في روايتي.. طريدة يلاحقها الكلاب. حتى شكل وجوههم وأنفاسهم تتحول إلى هذا الشكل المتوحش المفزع البغيض".
مثلها رغدة مثل غسان وغادة ومثل مريد ورضوى، كلهم طرائد حاولت النظم الإمساك بها وكتم أصواتها، حاولت أوطانهم التي عاشوا يدافعون عنها أن تدفنهم أحياءً، وأن تُخرس أصواتهم. لكن الأرواح الحرة دائمة إصدار الضجيج حتى وهي صامتة ومكبلة بالأصفاد داخل الزنازين، وعيونهم ممتلئة بالثقة والاعتزاز حتى وهي متورمة غائمة من أثر التعذيب. الوحيد الذي كان يقف مرتعشاً من الخوف يبتلع غصته كان السجان وكلابه؛ لأنه يعلم تماماً أن قوته مزيفة، وأن النظام الديكتاتوري إنما هو جبن جلي.
الضغط على أبيها
وفي مرة تم استدعاؤها لإدارة السجن -سجن فرع فلسطين- لمقابلة والدها. وهو رجل معتز بحاله ذو سلطة دينية وممتلك لأراضٍ وقاضٍ، حاولوا إذلاله بأن يُروه ابنته ممزقة الثياب دامية الجسد كل طرف منها به جرح ينزف ورأس متورم من آثار حدوث كسر بالجمجمة، وزاد في إذلاله بأن حاولوا أن يدينوا رغدة أخلاقياً، لأنه فعلياً ليست لديهم أية أدلة للإدانة، وفي محاولات التحقيق وعن طريق التعذيب يحاولون الوصول إلى هذه الأدلة، التي ليس لها أي وجود من الأساس.
سألوها عن علاقتها بالشباب الذين اعتلقوا معها، فترد رغدة: "ليست بيننا أيه علاقة، هم رفقاتي في حزب العمل الشيوعي. ولم يحدث أي شيء منافٍ للأخلاق". وتكمل الفقيدة: "لم يتحمل البابا، بتعرف إنه الرجل الشرقي كتير بيوجعه أنه ينقاله شوف بنتك على علاقة بهذا وهذا، شعرت بالبابا بيخرج من المكتب، وهنا بدأت العاصفة، كان مدير السجن بنفسه يشرف على تعذيبي، باستخدام الكهربا والسياط، وأوقعني أرضاً وصرخ فيا أني عاهرة، فقلت: أمك العاهرة، وخالتك ونساء عائلتك أجمعين. لماذا تصفني بما ليس فيَّ. فقال: لأنكم تحاولون الانقلاب على الرئيس. فقلت له إننا لا نراهم أصلاً، وإنهم أقزام، وإننا فقط لا نريد أن تكون منهم".
هذه الخدعة التي اختلقها بعض الذكور وصدقتها بعض المجتمعات الشرقية منذ اليوم الأول، حين لم يستطع أحدهم أن يحفظ شرفه، لم يستطع أن يوفر أماناً لشعبه، أو أن يحمي أرضه، أو يسترد ما سلب منه، ولم يتمكن من تحقيق العدل ولا حفظ الحقوق ولا رد الأمانات، قرر أن يداري هزائمه برمي الحمل على أكتاف غيره، فقال إن شرفه في كائنٍ أخرٍ منفصل عنه أصلا هو الأنثى التي تقربه. لكن رغدة كانت شريفة دوماً، بقضيتها وإيمانها بالنضال، عرفت دائماً أن الأجساد قمصان رثة، ستقبر يوماً ما، وأن القضايا هي التي تُخلد.
رغدة في سجن النساء
تم ترحيل رغدة إلى المحاكمة في محاكم أمن الدولة. وأودعت بسجن النساء. وتحكي أن النساء هناك كن يعتبرن السجن هو بيتهن، ولم يكن يخطر على عقولهن بأنه ثمة أصلاً فرصة للنجاة. وحين رأوها ازدادت قناعتهن بأنهن لن يخرجن أبداً.
وتصف حالتها في مراقبة أفعالهن في مهجع النساء، واقتناصهن التفاصيل الصغيرة لخلق ابتسامة، تقول إنه لم يتوقف التعذيب، لكن وجودها ضمن رفقة تقتنص أي شيء للتحايل على الموت دفع بها شجاعة للمقاومة.
وبدأت قصة الحب
في السجن كانت النساء تتواصل مع الرجال في المهجع المقابل عن طريق الطرق على الأنابيب الحديدية وعن طريق مواسير المياه المعطلة. حينها ظهر عامر الذي كان يرى رغدة بينما يتم جرها مرة بعد مرة من وإلى غرفة التحقيق، وطلب من إحدى النساء أن تساعده على التواصل مع هذه الصبية. وقد كان.. فتواصلوا مرة بعد أخرى عن طريق الأنابيب. ثم تقول ضاحكة إنه حدث تكدس سكاني، وكان عليهما أن يجدا طريقة أخرى للتواصل، فعملا على صنع ثقب في الحائط من زنزانتها وزنزانته، كانا يتحدثان منه ثم يخبآنه من أعين السجانين.
ونشأت بينهما قصة الحب، خلقت لهما سبباً ومعنى للمقاومة، ورغبةً في الحياة. كتبت له أجمل رسائل العشق والهيام، ورسم لها صوراً ضاعت في المعتقل فيما بعد، لكن الشيء الذي حرصت على الاحتفاظ به هو خريطة لمخيم اليرموك الذي يعيش به. واتفقا أن يلتقيا بالخارج وأن من يخرج أولاً ينتظر خروج الآخر. وبعد مرور عام على مولد هذه القصة جاء بيان بإخلاء سبيله.
لم تتحمل رغدة ولم يرغب هو في الفراق، فوقفت في الزنزانة تبكي بانهيار أخرسَ السجانين وأبكى المسجونات والمسجونين، بينما وقف عامر في الرواق يرفض إخلاء سبيله.
وهو ما تصفه رغدة بعذوبة وقسوة شديدة في الرواية التي تتحدث فيها عن قصتها "نجمة الصبح". خرجت رغدة من السجن بعد خروج عامر بسنة، وذهبت إلى مخيم اليرموك وبالفعل تمت الزيجة، وأنجبت رغدة طفلين، ربتهما مع طفلَي عامر اللذين تركتهما أمهما وقررت الابتعاد لأنها لم تتحمل حدث اعتقال عامر.
وتحكي رغدة أنها تجنبت العمل السياسي لكن لم تتوقف عن متابعة الشأن العام، وتفرغت للكتابة، فكتبت مخطوطة رواية "نجمة الصبح" والتي كان اسمها حينها "الأنبياء الجدد"، تحكي فيها تجربتها مع الاعتقال في السجون السورية وقصة حبها وعامر، ما تسبب في مصادرة المخطوطة واعتقالها مرة أخرى، حتى تم الإفراج عنها ببيان من منظمة العفو الدولية حين اندلعت الثورة السورية، التي ما لبثت أن خرجت من السجن حتى شاركت فيها.
وتقول في أحد اللقاءات إنها لم تصدق أن الشعب السوري قد قام أخيراً بصنع ضجة، وارتفع صوته بعد أعوام من الخضوع، ثم نزحت مع زوجها وأطفالها إلى لبنان ومنها إلى فرنسا بسبب الملاحقة الأمنية والحصار، وتحكي أنها شعرت بالخيانة لوطنها بسبب هجرها للبلاد، لكنها كانت تعرف أن أولادها بحاجة إلى حضنها وقربها، وعرفت أن قضيتها الكبرى في الحياة هم هؤلاء الأولاد.
معاناة مع السرطان
وعاشت هناك بقية حياتها، وعرفت بخبر إصابتها بالمرض الخبيث، وحتى في وجه المرض الخبيث كانت مناضلة قوية. وحتى آخر أيامها لم تتوقف عن الاهتمام بالقضية السورية.
أما عن مخطوطة الأنبياء الجدد فقد صدرت أخيراً في عام 2017 عن دار ورق بدبي بعنوان "نجمة الصبح"، وكتبت بعدها رواية "حيث لا دمشق هناك"، وكلاهما ينتميان إلى أدب السجون.
برعت رغدة في سردهما واستخدام لغة جزلة في الوصف وشديدة الحميمية، حتى تشعر حين تقرأ أنك تسير معها في أروقة جبلة، وتدخل السجن بقدميك راضياً لا عنوة، تشاهد بعينيك المجردتين ما لم تعشه في حياتك، وتُشفق عليهم، على النظام الديكتاتوري الذي يرتعش من الخوف وترتعد أوصاله لا على المعتقلين، لأن المعتقلين عرفوا معنى الحياة، وبارزوا بمهارة، واحتالوا على الموت فسبقوه بخطوة وعرفوا أن معنى الحياة يكمن في فقدها، فاستعدوا لذلك.
يا لك من قاسية أيتها البلاد..
تزجين بالشعر في قلب الزنازين بينما الكلاب تعث في الأرض فساداً بالخارج. في عالم آخر ستحظى رغدة بحياة رقيقة، لا تتجه فيها نحو أدب السجون أبداً، بل ستكتب أغاني الحُب، لأنها رغم هذه الحرب التي شنها النظام على حياتها، وهذه المعارك التي شنها المرض على جسدها، كانت لا تزال قادرة على الحُب.
"مبروك للقتلة هذا العالم…!
كيف لم نفهم بعد.. بأنه لا مكان لنا هنا؟"
قُتلت رغدة حسن. قتلها الأوغاد. لأنهم لم يستطيعوا أن يتحملوا خِفة وجودها على سطح العالم. وقتلها المرض عناداً في مقاومتها الباسلة. رحلت رغدة المناضلة وتركت لنا خطابات المقاومة. ورحلت رغدة الشاعرة وتركت لنا قصاصات شِعرية في كل مكان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: [email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.