"وأنا أستمع إلى الموسيقى، تنفتح حولي حدائق، فتصير النغمةُ زهرةً أسمعها بعينيّ"..
هكذا ظل حال درويش يستمع إلى الموسيقى حتى أصبح جزءاً منها حتى ولو عن طريق الصدفة، ففي عام 1976 قام الفنان الشاب آنذاك مارسيل خليفة بقراءة قصيدة منشورة لدرويش بعنوان "وعود من العاصفة" واعتقد مارسيل أنه يجوز للفنان تلحين ما يريد من الشعر دون الرجوع للشاعر باعتبار القصائد ملكية عامة، ومن هذا الأساس بدأ في تلحين قصائد درويش دون توقف وكأن الله خلقه من أجل قصائده كما صرح "خليفة".
هذا الثنائي الذي أصبح أحد أهم الثنائيات في تاريخ الأغنية العربية الحديثة من منتصف السبعينات وحتى بعد رحيل درويش، قد قدم مارسيل ألبومين "سقوط القم"، و"أندلس الحب"، وقال بعدما سألوه عن شعوره إثر فراق صديق عمره: "أتمنى أن يكون درويش راضياً عني".
وعلى الرغم من أن مارسيل خليفة قد غنى لشعراء آخرين مثل: توفيق زياد وسميح القاسم وطلال حيدر، لكن لا شيء يماثل أبداً تجربته مع درويش، كانت أغاني مارسيل هي النشيد الوطني للمقاوم والمغترب والعاشق، أغان مثل "ريتا "، "جواز سفر"، "وعود من العاصفة"، "تصبحون على وطن"، كلها أغانٍ لا يمكن أن أتخيل العالم من دونها. مارسيل ودرويش كانا يغنيان للوطن في وقت كانت الأغاني الوطنية حينها مبتذلة وسطحية، فتراه يتحدث عن فلسطين بأنها "النبي يوسف" في أغنية "أنا يوسف يا أبي" والتي كادت أن تتسبب في حبس مارسيل بتهمة ازدراء الأديان، حيث كانت تنتهي قصيدة درويش باقتباس قرآني من سورة يوسف، فغناها مارسيل كما هي مما تسبب في حدوث أزمة لدى البعض وقتها.
"أندلس الحب.. بعد الرحيل"
يتذكر مارسيل خليفة صديق عمره ومشواره الفني في ذكرى مولده الخامس والسبعين، في الألبوم الذي أطلق عليه "أندلس الحب"، يتغنّى مارسيل بصوته الحنون بأبيات درويش: "لأني أحبك يجرحني الظل تحت المصابيح.. يجرحني طائر في السماء البعيدة.. عطر البنفسج يجرحني.. أول البحر يجرحني.. آخر البحر يجرحني.. ليتني لا أحبك.. يا ليتني لا أحب.. ليشفى الرخام.. يطير الحمام.. يحط الحمام". هي القصيدة التي قد لا تعرفون أنها قائمة على رسالة من محمود درويش إلى حبيبته والذي قد طلب مارسيل منه أن يغنّيها، فرفض رفضاً قاطعاً باعتبارها رسالة شخصية من غير المفترض أن تظهر على الملأ للجمهور.
لكن وقبل أن يدخل درويش إلى غرفة العمليات في عام 2008، هاتف مارسيل وأخبره بأن باستطاعته تلحين وغناء الكلمات، ورحل درويش ونعاه مارسيل بأن غنّى مقطعاً من القصيدة الذي يقول في بدايتها: أعدّي لي الأرض كي أستريح فإني أحبّك حتى التعب.. صباحك فاكهةٌ للأغاني.. وهذا المساء ذهب.. ونحن لنا حين يدخل ظلٌّ إلى ظلّه في الرخام.. وأشبه نفسي حين أعلّق نفسي. على عنقٍ لا تعانق غير الغمام، وأنت الهواء الذي يتعرّى أمامي كدمع العنب.. وأنت بداية عائلة الموج حين تشبّث بالبرّ حين اغترب، وإني أحبّك، أنت بداية روحي، وأنت الختام.. يطير الحمام.. يحطّ الحمام". وبعد مرور ثماني سنوات يقرر مارسيل أن يستدعي درويش، مرة أخرى من خلال "أندلس الحب".
تريو جبران .. الشعر والموسيقى
الثلاثي جبران "سمير ووسام وعدنان" هم ثلاثة أشقاء فلسطينيين يعيشون في العاصمة الفرنسية باريس، ولدوا في عائلة تحب الموسيقى الشرقية وقاموا بدراسة الموسيقى الغربية، ثم حملوا أعوادهم متجهين في كل صوب يجربون كل شيء، حتى وصل بهم الحال أنهم يلحنون الموسيقى التصويرية للعديد من الأفلام الأوروبية والعربية والتي حصدت العديد من الجوائز.
رحلة العشر سنوات
كانت رحلة الثلاثي جبران مع محمود درويش والتي بدأت في عام 1996 وظلت حتى رحيله، قدموا فيها أكثر من ثلاثين حفلاً ناجحاً مختلفة تماماً عن رحلة درويش مع مارسيل خليفة، فمارسيل كان يلحن قصائد درويش ولكن الثلاثي جبران كانوا يلحنون الموسيقى نفسها، فهم يستمعون إلى القصيدة ثم يستنبطون منها موسيقاهم والتي يقومون بعزفها بصورة حية مع إلقاء الشاعر محمود درويش، وكانت البداية بلقاء سمير جبران بدرويش في فرنسا ومرافقته في حفل واحد، ولكن بعد أن أعجب درويش بوقع شعره على أنغام عوده اتفقا على أن يرافقه في أمسياته التالية، وانضم وسام وعدنان إليهما لاحقاً ليشكلا الثلاثي جبران.
نجاة الصغيرة.. مشروع لم يكتمل
في بداية عام 1971 وصل محمود درويش إلى القاهرة وأرسل قصيدته "قصيدة حب فلسطينية" إلى الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب لكي يبدأ في تلحينها لكي تغنيها الفنانة نجاة الصغيرة، حيث كان من المفترض إقامة حفل لصالح المقاومة الفلسطينية في هذا الوقت، فكانت ستغني الأغنية في برنامج هذا الحفل، ولكن يبدو أن عبد الوهاب لم يكمل اللحن أو لم يبدأه من الأساس حيث لم يخرج اللحن مطلقاً.
ولكن لم ينتهِ الأمر هكذا، حيث يقول الصحفي الفلسطيني عبد الباري عطوان في كتابه "وطن من كلمات" الصادر عن دار الساقي عام 2011، إن درويش قد حكى له أنه جمعته قصة حب بنجاة الصغيرة، حيث كان يتلقى باقة ورد يومياً بتوقيع مجهول، وبعد فترة كشفت المجهولة عن نفسها وعرف أنها نجاة الصغيرة، ولكن درويش لم يرغب في زواج ثالث بعد تجربتين لم ينتهيا بشكل جيد، الأولى رنا قباني ابنة شقيق الشاعر نزار قباني، والثانية حياة ابنة عصام الحيني وكيل وزارة الثقافة المصرية، وعقد قرانه عليها في بداية نوفمبر 1984. كان يكره أن تشاركه امرأة في حياته، وكان يفضل دائماً أن يكون سريره مملكته وحده.
أثر الفراشة الذي تركه درويش
"أثر الفراشة لا يُرى.. أثر الفراشة لا يزول"، كانت تلك واحدة من أجمل القصائد التي كتبها درويش وغنتها المطربة الفلسطينية الراحلة ريم بنا في ألبومها "تجليات الوجد والثورة" عام 2013، وقبل رحيلها كتبت ريم: "لتلتقي بمحمود درويش عليك أن تصعد إلى الشمس.. وصلت إلى قمة التل.. التفتُّ أولاً ورائي.. رأيت ما يراه شاعري المُفضّل كل يوم.. هذه رام الله وزهر اللوز.. وبعدها هناك.. يرى وراء الأفق كل فلسطين".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.