ساد الصمت المكان، أغلق المستمعون عيونهم بانتظار أن يصدح الرجل الواقف على المسرح بصوته، منشداً أغنية أشبه بصلاة أو دعاء. كانت أجسامهم تهتز إلى الخلف والأمام، ثم قال إنه نادم ويرجو الغفران فانهمرت الدموع، وغرق الجمع في عذوبة الصوت والكلام الذي لا يستأذن ليدخل القلوب.
أثبت الإنشاد الصوفي قدرته على اختراق الحواجز والتظاهر والادعاءات. يدعو مستمعه للتخلي عن الماديات والارتقاء نحو السمو الروحي عبر الاستماع.
ازداد عدد الجمهور الشغوف بسماع فرق الإنشاد الصوفي مؤخراً. وحتى هؤلاء الذين ينكرون على الطرق الصوفية -أو يختلفون معها في الكثير من المسائل- لا يجدون أمام هذا الفن الرفيع والكلمات المنتقاة سوى التذوق والإنصات.
تختلف طرق الإنشاد باختلاف الطرق الصوفية نفسها. وفيما يلي، 5 فرق عربية كبيرة تميزت في الإنشاد الصوفي :
فرقة ابن عربي.. وما الوجه إلا واحد غير أنه إذا أنت عددت المرايا تعدَّدا
فرقة ابن عربي هي الفرقة التي استطاعت أن تجذب جمهوراً كبيراً من المشرق والمغرب العربي، وحتى من البلاد غير الناطقة بالعربية.
ولأنهم حملوا اسم أحد كبار أئمة التصوف وفلاسفته "الشيخ ابن عربي"، كانت رسالتهم للجمهور: "نشر فلسفة ابن عربي والتصوف عامة، عن طريق إعادة إحياء التراث الصوفي السماعي في العالم كله".
بهذه المعاني، يجيب الدكتور أحمد الخليع عندما يُسأل عن رسالة الفرقة والهدف من إنشائها.
وأنشأ الدكتور أحمد الخليع، الحاصل على الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية، فرقة ابن عربي عام 1988، بزاوية الصديقية الدرقاوية في مدينة طنجة بالمغرب، والتي تتبع الطريقة الشاذلية.
ثم انضم إليه المنشد عبد الله المنصور، الذي تعتمد عليه الفرقة في الإنشاد منفرداً.
تتكون الفرقة من 6 عازفين، من المغرب وفرنسا وتونس.
تعتمد في موسيقاها على الإيقاع الأندلسي الكلاسيكي المميز، والذي يضفي على المكان طاقة من السكينة والطمأنينة بمجرد بدء الفرقة في العزف.
عن طريق الآلات الوترية كالقانون والكمان والدف والطبلة، يتنقل المستمعون إلى عالم من الصفاء الروحي لاستيعاب الكلمات العميقة التي تحتويها أشعار كبار الصوفية؛ كابن العربي وابن الفارض ورابعة العدوية وأبو الحسن الششتري.
اتخذت فرقة ابن عربي شعاراً مميزاً، تحرص على وضعه على الآلات الموسيقية وفي خلفية الحفلات، وهو كلمتَي "هوَ هو".
ترمز الكلمة إلى اسم الله -تعالى- في الآية الكريمة "هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُو" (سورة الحشر: الآية 23)؛ وهو مكتوب بطريقة المرايا نسبة إلى قول ابن عربي:
وما الوجه إلا واحد غير أنه … إذا أنت عددت المرايا تعدَّدا
أما ملابس الفرقة، فهي القفطان المغربي الأصيل؛ تعبيراً عن الموطن الأصلي للفرقة والطابع الموسيقي الذي تنحدر منه.
ومن أشهر أقوال ابن عربي:
أدين بدين الحب أنّى تَوَجَّهَت … ركائبه فالحب دِيني وإيماني
فرقة الإخوة أبو شِعر.. 3 صفات في مادح الرسول: الشوق والذوق والجوق
في مسجد صغير بمنطقة الزاهرة في دمشق تأسست فرقة أبو أيوب الأنصاري عام 1983، والتي سوف تسمى بعد ذلك فرقة الإخوة أبو شِعر.
سميت عائلة أبو شِعر نسبة إلى جدهم الأكبر محمد تقي الدين أبو الشِّعر؛ الذي يُحكى أنه لم يكن يتكلم إلا شعراً، لذا سمي هذا الاسم.
أخذ السيد محمد تقي الدين -الجد الأكبر للعائلة- العهد في الطريق على يد سيدي أبو الحسن الشاذلي؛ أحد كبار أئمة الصوفية، فهم يتبعون الطريقة الشاذلية والرفاعية حتى الآن.
تتكون الفرقة من الأب "موفق أبو شِعر" وأبنائه الستة: ماجد ومحمد خير وأبو بهجت وزياد وأنس وعبد الرحمن.
أما الحاشية، فتضم أبناء الأبناء: موفق وطارق أبو شعر.
بعد الأحداث السورية عام 2012، اضطرت الفرقة إلى الانتقال للعيش بمصر، ما فتح لهم آفاقاً جديدة في التعرف على الجمهور المصري والتفاعل مع الفرق الصوفية المختلفة التي تقيم في مصر.
فتحت لهم مصر ذراعيها، واستقبلت فنهم بالترحاب في مسارحها المختلفة بساقية الصاوي ودار الأوبرا، وغيرها من المسارح، بالإضافة إلى مشاركتهم في الاحتفالات الدينية بالمساجد.
تعتمد الفرقة على الأداء الجماعي، ويغلب على الألحان المصاحبة لها مقام الحجاز، الذي يعتبر مقاماً شرقياً وغربياً في الوقت نفسه.
يلقى هذا المقام ترحيباً لدى الجماهير، التي تحب التفاعل مع المنشدين.
وتعتمد الفرقة على الآلات الإيقاعية في الموسيقى المصاحبة؛ كالدف والرّق والطبلة.
كما أنهم يتخذون شعاراً موحداً على ملابسهم، يرمز إلى نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يوصي الجد ومؤسس الفرقة "موفق أبو شِعر" أعضاء فرقته بـ3 صفات، لا بد من أن تتوافر في مادح رسول الله، ألا وهي: الشوق والذوق والجوق؛ أي الشوق إلى الرسول محمد، والذوق الموسيقي الرفيع، أما الجوق فهو التعاون مع الجماعة أو"الجوقة" التي يصاحبها في المديح.
أصدرت فرقة أبو شِعر ألبومين وبعض الفيديو كليبات على موقع يوتيوب، ويستعدون لإصدار ألبوم جديد قريباً.
فرقة المرعشلي.. مزيج من الطريقة المصرية والتركية والمغربية في الإنشاد الصوفي
بظروف وملابسات مشابهة حد الغرابة، تأسست فرقة الرضوان المعروفة باسم فرقة المرعشلي في سوريا.
تأسست هي الأخرى لأب و3 أبناء ومعهم آخرون، ولكن قبل فرقة أبو شِعر بـ3 أعوام؛ أي عام 1980.
أسس الشيخ عبد القادر المرعشلي الفرقة بعد استئذان شيخه الشيخ صالح الحموي الشاذلي.
بدأ بتسجيل الشرائط والإنشاد في الحفلات الدينية المتنوعة بسوريا، وأحياناً في بعض الدول العربية.
وكما اضطرت فرقة أبو شعر إلى الانتقال للعيش في مصر؛ فقد استقرت فرقة المرعشلي أيضاً بمصر عام 2012، في ضيافة الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية السابق.
اندمجت الفرقة في مصر بشكل لافت، جعلها مقصد محبي المدائح ومتذوقي الإنشاد الصوفي.
مرت فرقة المرعشلي بـ3 مراحل في مسيرتها، ففي البداية اعتمدت على إعادة إنشاد التواشيح المصرية للمنشدين الكبار مثل طه الفشني.
ثم دشنت مرحلة أخرى في إنشادها منذ التسعينيات، تعتمد أكثر على الكلمات والألحان الجديدة.
وفي الألفية الثالثة، أدخلت الألوان الأخرى من الموسيقى كالموسيقى التركية والمغربية، بالإضافة إلى أناشيد المراحل السابقة.
كما تعتمد الفرقة على الإنشاد الفردي أحياناً والجماعي أحياناً أخرى.
وتتميز بالملابس الشامية القديمة من الطربوش الأحمر والحُلل المليئة بالنقوش والتطريز المقصب والذهبي، وتصاحب الفرقة الآلات الإيقاعية فقط.
فرقة الحضرة.. إعلان على فيسبوك أطلقها للشهرة
لم يكن يعلم "نور ناجح"، مؤسس فرقة الحضرة، وهو يجلس في حضرة ذكر بمسجد السيدة زينب عام 2015، أن فرقته التي ينوي إنشاءها ستجد ترحاباً وحفاوة من المصريين والعرب في سنوات قليلة.
بدأ الأمر عندما أراد "نور ناجح"، المنتمي إلى الطريقة الخليلية، نقل حالة الذكر في الحضرات الصوفية بشكل مبسط لعموم الجمهور، لكن بالشكل الصحيح للحضرات.
أي أن تضم عدداً كبيراً من المنشدين والبطانة، فبحث في البداية عن منشدين ذوي أصوات مميزة محبين للتصوف والإنشاد.
ثم ارتفع سقف الاختيار إلى شرط أن يكون المنشدون منتمين إلى طرق صوفية فعلاً.
في المرحلة الثانية من اختيار منشدي الحضرة، كتب "نور" إعلاناً على فيسبوك يطلب فيه منشدين منتمين إلى طرق صوفية للانضمام إلى فرقته الوليدة.
كانت الاستجابة للإعلان كبيرة، مما ساعد "نور" في حسن الاختيار والتدقيق، لكثرة عدد المتقدمين.
وتتكون الفرقة حالياً من نحو 15 عضواً ما بين منشدين وعازفين، ينتمون إلى الطرق الخليلية والبرهانية والإدريسية الأحمدية والخلوتية.
وتعتمد على الإنشاد الجماعي تارة والفردي تارة أخرى، كما تصاحب الفرقة الآلات الوترية كالعود والكمان، والآلات الإيقاعية كالطبول والرق، وآلات النفخ كالناي.
في بداية عام 2018، انتشر على موقع فيسبوك فيديو مصور بكاميرا الموبايل لمجموعة من الشباب ينشدون المدائح والقصائد الصوفية في قطار الصعيد.
لاقى الفيديو استحساناً وحظى بآلاف المشاركات؛ ولم يكن هذا الفيديو إلا تسجيلاً للحظات التجلي في الإنشاد، التي تحسنها فرقة الحضرة.
أضاف هذا الفيديو آلافاً من المحبين للفرقة، الذين سألوا عنها وعن أماكن حفلاتها.
وتعد أهم ميزة لفرقة الحضرة هي إحياء المدائح الصوفية باللغة المصرية العامية كقصيدة "يا سيدة"، التي يطلبها المستمعون في كل حفل تقريباً.
وأعادوا تجديد قصيدة "مشتاق لك يا نبينا"، وغيرها من القصائد العامية الشهيرة، بالإضافة إلى القصائد العربية الفصحى.
فرقة المولوية.. 3 مراحل قبل أن تدخل روح الذاكر للسماء
ترجع كلمة "المولوية" نسبة إلى كلمة "مولانا" والمشار بها إلى الإمام جلال الدين الرومي، شيخ الطريقة المولوية أو الجلالية، التي انطلقت من تركيا.
إلا أن فرقة المولوية المصرية التي تأسست على يد "عامر التوني" عام 1994، أخذت من المولوية الرئيسية الشكل العام، في محاولة للتحاور معها من منظور التراث المصري الصوفي.
وحاول عامر التوني أن يمزج التراث المصري الأصيل، الذي يعود لفترة الحكم العثماني، والموسيقى المولوية برقصتها الشهيرة مع ألحان وكلمات مصرية.
وتعتمد المولوية على فكرة تفاعل الجسد مع الروح عندما تستمع إلى الموسيقى الصوفية وتتأثر بها، فهي تأتي على ثلاث مراحل:
- 1- المرحلة الأولى، وهي مرحلة السماع والسكون الجسدي على الأرض.
- 2- ثم مرحلة الذكر بين السماء والأرض.
- 3- ثم المرحلة الأخيرة وهي دخول روح الذاكر للسماء، وهي مرحلة الدوران في رقصة المولوية؛ وحركة الدوران نفسها تعود لدوران الكواكب حول مركز النور رمز الحق.
تتكون فرقة المولوية من المنشد الرئيسي وهو عامر التوني، والبطانة التي تنشد خلفه، والعازفين على الآلات المختلفة: الكولة والقانون والعود والكاخون والدهلة؛ بالإضافة إلى الراقصين.
وتتميز ملابسهم بالطابع المصري، فهم يلبسون الجلباب الأبيض كدلالة لملابس الإحرام، ولأنه لون يجمع كل الألوان بداخله.
كما يلبس الراقصون الألوان السبعة كدلالة على تغير أحوال الذاكر.