تعيش بعض الدول "الديمقراطية" الحديثة (فضلاً عن دول الاستبداد والقمع) على التوازن الدقيق بين مناخ القانون العام الذي يجرم التنظيمات المسلحة التي تمارس الكراهية والعنصرية، ويسمح بكشف بعض جوانبها وروايتها للجمهور العام، وبين شبكات الدول العميقة التي تواري سوءات التنظيمات السرية التي تمارس ذلك الإجرام وتحميها.
ضابط أسود في مهمة لاختراق التنظيم الأبيض
وفي ظل ذلك التوازن استطاع الضابط الأميركي الأسود رون ستولورث Ron Stallworth اختراق عصابة كو كلوكس كلان Ku Klux Klan، ليكشف عن بعض جوانب ذلك التنظيم السري العنصري، بينما كان يعمل ضابط تحر سريٍّ بولاية كولورادو عام 1978، إلى أن أمر بالتوقف في تحريه عن حد معين، وأن يتخلص مما لديه من أدلة ووثائق، ولأنه آثر الاحتفاظ سراً بكل ما في حوزته، فقد استطاع رواية ما حدث بعد 36 عاماً، في كتاب له بعنوان "العضو الأسود لكلان أو Black Klansman"، الذي تحوَّل إلى فيلم سينمائي بعنوان "عضو كو كلوكس كلان الأسود BlacKkKlansman"، الذي تم إطلاقه في العاشر من أغسطس/آب 2018 (أي بعد حوالي 40 عاماً على الواقعة).
الكتاب والفيلم يتناولان قصة هذا الضابط، وما استطاع كشفه بالفعل، ومتى أمر بالتوقف عن استكمال عمله، وقبل أن نقدم قصة ما حدث دعونا نقدم جانباً شديد الاختصار من تاريخ عصابات كو كلوكس كلان.
ما هو تنظيم الكوكلوكس كلان؟
تعود نشأة ذلك التنظيم إلى الفترة ما بين عامي 1865 و1866، عبر 6 من ضباط جيش الجنوب المشارك في الحرب الأهلية، والمناهض لتوحيد الولايات الأميركية، ولإنهاء العبودية.
وقد مرَّت حياة ذلك التنظيم بمراحل ثلاث، حيث انتهت المرحلة الأولى في سبعينات القرن التاسع عشر، ولم يُعرف المنضمون لها حينذاك، بينما بدأت المرحلة الثانية عام 1915 واستمرت حتى عام 1944، وقدر عدد أعضائها حينها بما بين 3 إلى 6 ملايين، بينما بدأت المرحلة الثالثة عام 1946، وهي مستمرة حتى الآن، وتبلغ التقديرات التي نشرتها موسوعة الويكيبيديا لعدد الأعضاء ما بين 5 إلى 8 آلاف عضو.
ويتبنَّى التنظيم أفكاراً عنصرية يمكننا أن نختصرها في تثبيت دعائم مجتمع البيض الأنجلو ساكسونيين البروتستانت، والمعروف اختصاراً بالواسب WASP، ومعاداة كل من عداهم، خاصة من السود واليهود والكاثوليك، ومعاداة المهاجرين، ومؤخراً معاداة المسلمين، وتبني الأفكار اليمينية القومية المتطرفة، والفاشية والنازية الجديدة.
ومن هو الضابط منفذ المهمة المستحيلة؟
أما رون ستولورث، فقد ولد عام 1953 في شيكاغو، وتربى في تكساس، ثم انتقل إلى كولورادو عام 1972، والتحق بالشرطة فيها ليعمل ضابط تحرٍّ سري، وفي عام 1978 لاحظ إعلاناً في الصحيفة المحلية يبحث عن أعضاء لفرع جديد من كو كلوكس كلان في كولورادو سبرينجز، فاتصل برقم الهاتف المدرج في الإعلان، وقدم نفسه على أنه رجل أبيض عنصري يكره السود واليهود والمكسيكيين والآسيويين.
وخلال المحادثة، علم أن الرجل الذي أسس الفرع الجديد كان جندياً في فورت كارسون المجاورة، وقد دعاه الرجل للقائه في حانة محلية، فكان أن أرسل رون -بترتيب مع قياداته- ضابطاً أبيض على أنه هو، وكانت هذه الحيلة ناجحة، ومن ثم استمرّ رون في تلك الحيلة ما يقرب من ثمانية أشهر، وفي مرحلة ما من التحقيق، اتصل بـ "ديفيد ديوك"، الذي كان يرأس التنظيم حينها، وذلك للسؤال عن وضع طلب عضويته، فاعتذر له ديفيد عن التأخير في الرد على طلبه، ووعد بأن ينظر في طلبه شخصياً، وبالفعل أرسل له شهادة وبطاقة عضوية موقعة منه.
عمله أسهم في منع عمليات إرهابية
وخلال أشهر التحري والتواصل السري، أثمر العمل عن منع ثلاث عمليات إرهابية محلية، كما تم كشف اثنين من العسكريين العاملين في قيادة الدفاع الجوي لأميركا الشمالية، ممن كان لديهم تصريح أمني كبير للعمل على لوحة التحكم التي كانت تراقب المجال الجوي لأميركا الشمالية، حيث تم إبعادهما عن منصبهما الحساس، وأعيد تعيينهما في مكان آخر في القطب الشمالي أو جرينلاند. بعد ذلك تواصل معه التنظيم لتعيينه (تعيين زميله الأبيض) رئيساً للفرع المحلي، وعندما أخبر رون رئيس الشرطة بهذا التطور، أمره بإنهاء التحقيق فوراً قائلاً: "لقد ذهبنا بعيداً بما فيه الكفاية"، وطلب منه ألا يجري اتصالاً معهم ثانية، وألا يجيب على الهاتف، وألا يذهب لأي اجتماعات أخرى، كما أمر بتدمير الملف الذي بحوزته، لكنه غافَلَ الرقيب، وأخذ الدفاتر التي تحوي المعلومات إلى منزله. وقد أبقى رون بعد ذلك الأمر سراً، ولم يخبر أحداً عن دوره فيه إلى أن تقاعد عام 2005.
وفي يناير 2006، أجرى رون مقابلة مع صحيفة Deseret News of Salt Lake City، تكلم فيها عن كل تفاصيل التحقيق، وفي عام 2014، نشر كتابه عن تجربته، وهو الكتاب الذي تحول إلى الفيلم الذي أنتجه جوردان بيل Jordan Peele، وأخرجه سبايك لي Spike Lee، وقام ببطولته جون ديفيد واشنطون وآدم درايفر، ووصفه النقاد بالعمل الذي يمزج دراما الجريمة بالكوميديا، إضافة إلى التعليق الاجتماعي الحاد على الماضي والحاضر، وقد عرض لأول مرة في مهرجان كان في 14 مايو/أيار 2018، قبل إطلاقه رسمياً، ونال استحسان النقاد والجمهور.