أثناء نشأته في الرياض، شاهد علي الكلثمي شريط فيديو قديم لفيلم العصابات الشهير Goodfellas، وكان يشعر بشيء مألوف فيه.
ويقول: "هذا مدهش، إن الممثلين يبدون لي مثل أعمامي إذا ارتدوا البدلات". هكذا كان الكلثمي يرى الشخصيات الأميركية الإيطالية التي جسدها كل من جو بيشي، وروبرت دي نيرو، وراي ليوتا.
وأضاف علي، "لا أعني بكلامي العنف، بل السخرية وروح الدعابة. نحن لدينا هذه الميزة في المملكة، ولكن مع نزعة ذكورية واضحة، ولذلك عندما شاهدت الفيلم تساءلت من هو هذا الشخص المسمى مارتن سكورسيزي؟ كيف أمكن له أن يروي القصة بهذه الطريقة؟ عندها انتابني شعور بأنني أريد أن أحقق شيئاً مثله، ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ أنا موجود في السعودية التي لا توجد فيها صناعة سينما".
"نحن قادمون لبناء صناعة سينما"، ليس هدف السعودية كما يبدو هو أن يصبح عرض الأفلام على أراضيها أمراً شائعاً كباقي دول العالم بل الهدف المنافسة في صناعة السينما، وقد بدأوا لتوهم أولى الخطوات الرامية تحقيق هذا الحلم.
من خلال تشجيع مالي لإنتاج الأفلام، وحقائب مزينة، وصناع سينما جدد متدربين في مدرسة المخرج الأميركي الشهير مارتن سكورسيزي، تحاول المملكة العربية السعودية تقديم نفسها كقوة عالمية في صناعة الأفلام، حسب تقرير لمجلة Vanity Fair الأميركية.
تفاصيل المشاركة في مهرجان كان
في بداية ثمانينيات القرن الماضي، أي قبل ولادة علي الكلثمي الذي يبلغ عمره الآن 34 سنة، السعودية قراراً بحظر قاعات السينما، في أثناء موجة من التشدد الديني. لكن في إطار سلسلة من التغييرات التي يقودها ولي العهد محمد بن سلمان، قررت المملكة رفع هذا الحظر.
ومع حلول منتصف مايو/أيار 2018، كان الكلثمي يتحدث من وسط أول جناح السعودية في مهرجان "كان" للسينما، الذي عرض فيه فيلمه الكوميدي القصير "وسطي".
وفي المنطقة المغطاة في نفس الجناح، كان هناك رجل يرتدي ثوباً أبيض ويوزع القهوة السعودية بنكهتها القوية، في أكواب صينية صغيرة، فيما كان ثمانية من صناع السينما الآخرين الذين يمثلون المملكة بأفلام قصيرة في مهرجان كان، يختلطون مع الناس ومن ورائهم لافتات تروج لشعار "مملكة الفرص".
حزمة متنوعة لتشجيع صناعة السينما
لقد أعلنت السعودية للتو واحدة من أكبر حزمات التشجيعات الجبائية لإنتاج الأفلام، وهي تتضمن دعماً بنسبة 35% على مصاريف مواقع التصوير، بالنسبة للأفلام التي يتم إنتاجها في البلاد، ودعماً بنسبة 50% على كل موهبة محلية يتم توظيفها في الفيلم، إضافة إلى شراكات مع جامعة جنوب كاليفورنيا، ومؤسسة "فيلم إندبندنت" التي تشجع صناع السينما المستقلين.
وفي مؤتمر صحافي في كان، قدم المجلس السعودي للأفلام خطة معدّة بعناية لدفع قطاع السينما الوليد في هذا البلد، ووزع دليلاً إرشادياً يتضمن صوراً للمواقع التي تصلح لتصوير الأفلام، وكتاباً يحمل بيانات حول الجمهور السعودي الشاب المتعطش للإنتاج الرقمي، إضافة إلى حقائب يد تحمل اسم مجلس الأفلام السعودي ودفاتر للكتابة، وعلب تمر صغيرة باللون الذهبي.
وكتاب إرشادي لملابس النساء في الأفلام
وأثناء المؤتمر الصحافي، وجه الصحفيون والمراسلون العديد من الأسئلة المثيرة لأحمد بن فهد المزيد، الرئيس التنفيذي للهيئة العامة للثقافة في المملكة السعودية، حول بعض المسائل الثقافية مثل إمكانية السماح للنساء بارتداء الملابس الغربية في مواقع تصوير الأفلام.
وقد أجاب المزيد بالقول، "سيتم نشر كافة القواعد الإرشادية والضوابط أمام الجميع، أما بالنسبة للملابس الغربية فهي موجودة عندنا مسبقاً".
وقال المزيد، في حوار صحافي داخل الجناح السعودي في وقت لاحق من نفس اليوم، "نحن نستخدم مهرجان كان كمنصة لنقول للعالم نحن هنا ومرحباً بكم في السعودية. نحن قادمون لبناء صناعة سينما، لم نأت هنا من أجل حملة دعائية أو المشاركة بشكل عرضي في هذا الموعد".
شركاء في هوليوود مهتمون بالتجربة
وتندرج هذه التغييرات في السعودية ضمن برنامج "رؤية 2030" للأمير محمد بن سلمان، وهي خطة تهدف لخفض اعتماد المملكة على النفط، وتنويع الموارد الاقتصادية. وقد جاءت التغييرات سريعة وقوية، إذ أنه بداية من الشهر المقبل، سوف يسمح للنساء في المملكة بقيادة السيارات.
محمد بن سلمان وجد الكثير من الأطراف المهتمة بالشراكة معه في الولايات المتحدة، في إطار جهوده لتحقيق الانفتاح على مجال السينما، وذلك خلال زيارة قام بها مدينة لوس آنجلوس في أبريل/نيسان 2018، حيث التقى بكل من روبرت مردوخ، وبوب إيغر، وآري إيمانويل مدير شركة ويليام موريس إنديفر.
قياس الرأي العام ومدى تقبله للتغييرات الجديدة
حتى تحظى بالقبول وسط البيئة السعودية المحافظة، يتم النظر في الإصلاحات في السعودية بكل دقة، ومن ضمنها تلك التي ستتعلق بمسائل مثل الرقابة على الأفلام، بحسب المزيد.
وأعلن المزيد أيضاً أن الهيئة العامة الثقافية التي يشرف عليها، إلى جانب مؤسسة أخرى وهي الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع، تقومان باستطلاعات رأي وعملية تحليل التوجه العام في وسائل التواصل الاجتماعي، لتحديد حجم التغيير الذي يستطيع الرأي العام السعودي تقبله.
وأضاف المزيد، "أولاً، يجب أن نعرف أن هذه التغييرات عندما حدثت لم تكن مفاجأة، حيث أن الناس كانوا يستخدمون الإنترنت وكثيرين منهم سافروا خارج البلاد، وشاهدوا الكثير من الأشياء في رحلاتهم الدولية.. كما أن هنالك اطلاعاً كبيراً على العالم الرقمي.
"ولذلك أعتقد أن هذا الانفتاح كان موجوداً أصلاً، وكان الأمر يحتاج فقط إلى قائد لجعل الأمر رسمياً. وكما هو الأمر في أي مجتمع آخر، سوف ترى أن هنالك أشخاص سعداء بهذا التغيير، وآخرين لديهم مشاكل معه، وبهذه الطريقة ينضج المجتمع ويتأقلم، وسنرى ما الذي سيحدث".
وسيتوجب على صناع السينما الغربيين الذين يختارون تصوير أفلامهم في السعودية، الالتزام بالقواعد والإرشادات التي يعكف الآن المهندس أحمد المزيد وزملاؤه على ضبطها. ويتضمن أول فيلم يتم عرضه في دار السينما الجديدة في السعودية، وهو The Black Panther مشهداً قصيراً يتضمن قبلة، وقد تم حذفه.
يقول الكلثمي، "نعرف أننا يمكننا التحدث بحرية عن الكثير من الأشياء، ولكن هناك مسائل ليس من الحكمة أن نتطرق إليها. أنت تعرف ما نقصده هنا، مثل التطرق للسياسة".
المشاركة النسائية وصلت للسجادة الحمراء
ويعد دور المرأة السعودية في المجتمع واحداً من المسائل التي تشهد تطورات مثيرة، إذ أنه قبل ثلاث سنوات فقط، شاركت النساء في التصويت في الانتخابات المحلية لأول مرة. وعلى هامش مهرجان "كان"، أعلن المزيد أن 50% من المنحات الدراسية المقدمة من الهيئة العامة للثقافة للسعوديين لدراسة صناعة الأفلام في الولايات المتحدة سوف تسند للنساء. وأيضاً، بحسب نفس المصدر، فإن 54% من الموظفين في هذه الهيئة الجديدة هن من الإناث.
وقال المزيد، "خاصة في المجال الفني، وبشكل أخص في صناعة السينما، ستتواجد الكثير من النساء، إنهن يقبلن على الأمر حتى قبل أن نعلن عن برنامجنا". هكذا تحدث المزيد عن النساء من أمثال أشهر مخرجة في البلاد، هيفاء المنصور، التي مشت فوق السجادة الحمراء في مهرجان كان، برفقة 81 من النساء الأخريات في هذا العام، لتوجيه رسالة حول المساواة بين الجنسين.
كما يشير المزيد بهذا الحديث إلى أولئك اللواتي لا يزلن في بداية مسيرتهن في هذا المجال، مثل مرام طيبة، البالغة من العمر 31 عاماً، والتي نشأت في الرياض، وشاركت في مهرجان "كان" في فيلمها القصير "لا تذهب بعيداً"، الذي يتحدث عن رجل عربي شاب يعاني من تخلف عقلي، ويضيع عن أخته في قطار الأنفاق في نيويورك.
وأثناء دراستها للتصميم الغرافيك في جدة، في الجامعة التي تعتبرها هي "النسخة السعودية من معهد ويسلي الأميركي للفنون"، تابعت طيبة دروساً عبر الإنترنت في كتابة السيناريو، وأصبحت متعلقة بتلك الطريقة في سرد القصص. وقد صرحت: "لم أرغب يوماً في أن ألتزم بنمط الحياة التقليدي، الناس لديهم الكثير من القصص حتى يسردوها. وأنا شخصياً لدي قصص أريد أن أرويها".
هكذا يصنع الشباب السعودي أفلامهم الخاصة
تعرف عدد كبير من الشباب السعودي على مهنة صناعة الأفلام عبر الإنترنت والهواتف الذكية، ومنهم علي الكلثمي. ففي بداياته، استعار جهاز كاميرا من صديق له، وأخرج فيلماً قصيراً، وقام بتحمليه على منصة يوتيوب، وسرعان ما حصل على 30 ألف مشاهدة.
وقد أورد الكلثمي، قائلاً "لقد حصلت على كل الإرشادات من الإنترنت. لقد كنت أدرس أسلوب مارتن سكورسيزي وكل أفلامه الرائعة، وأحاول أن أبحث عن التأطير والنصائح من خلال الفضاء الافتراضي". وبعد ذلك استغل الكلثمي الأموال التي جناها من تصوير الإعلانات الدعائية، من أجل إنتاج مسلسل يضم اسكتشات وبرامج حوارية، قبل أن يطلق قناة على يوتيوب تسمى "تلفاز 11″، يتابعها الآن حوالي 22 مليون مشترك، كثيرون منهم من خارج المملكة السعودية.
والجمهور متعطش لحضور الأفلام
الحضور الجماهيري الكبير لأول العروض كشف عن التعطش الكبير لهذا القطاع. ففي بعض العروض نفذت التذاكر في ظرف 15 دقيقة.
من جانبه، قال المزيد، "ربما نكون الدولة الوحيدة في العالم التي يسافر منها الناس جواً لبلد آخر لمشاهدة فيلم ثم العودة عبر الجو. لقد كنا في السابق نسافر إلى دبي، نشاهد فيلماً، ثم نعود مرة ثانية. وكنا بذلك ننفق 5 أو 6 آلاف دولار بين الرحلة والفندق".
ومؤخراً، حضر الكلثمي عرضاً لفيلم "المنتقمون: عصر الإلترون"، برفقة مجموعة من زملائه في العمل. وفي هذا الصدد، بين الكلثمي: "لقد كان الأمر أشبه باحتفال، وكنت مندهشاً من أن هذا الأمر بصدد الحدوث، وكنا جميعاً نحتضن بعضنا بسعادة كما لو أننا في حفلة، لأن السينما حلت أخيراً بالسعودية".
من المؤكد أن أول الأفلام التي عرضت في السعودية كانت من فئة الأفلام الترفيهية التي حصدت أعلى إيرادات في شباك التذاكر، ولكن الكلثمي متمسك بالأمل بأن الإقبال على أفلام المخرج الشهير مارتن سكورسيزي سيكون أكثر. وختم الكلثمي، قائلاً: "أنا أبحث عن الجودة، أريد أفلاماً من هذا النوع".