ماذا لو كان الحل هو التخلي عن الذاكرة؟

كيف نتخلص من أوجاعنا كبشر؟ ولم أجد الإجابة قط، لكن مع الأيام نضجت شيئاً فشيئاً، فعلَّمتني الدنيا قبول الأحزان والآلام والمخاوف كأجزاء حقيقية من الحياة

عربي بوست
تم النشر: 2018/01/28 الساعة 01:29 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/01/28 الساعة 01:29 بتوقيت غرينتش

ماذا لو قررنا جميعاً أن نتخلى عن ذاكراتنا؟ ماذا لو قررنا أن نترك ماضينا، أن نتحرر منه، أن نكون بشراً بلا أخطاء، بلا ندم، بلا أي شيء يحدد هويتنا؟ ماذا لو قررنا أن نتخلى عن أحلامنا، عن طموحنا؟ أن نسير في خطى واحدة لا تختلف؟ ماذا لو اختارنا بمحض إرادتنا ألا نتميز، ألا يصبح لأحدنا قدرة على القيام بشيء خلّاق؟ ماذا لو قررنا أن تكون حياتنا بلا ألوان، بلا متعة حقيقية، بلا شغف؟ هل سنتجنب الشعور بالوحدة والقسوة والحزن والألم؟ وهل تستحق الحياة من دون ألم أن نتحول إلى مسوخ؟

أنا ممن عانوا الألم، كُسِر قلبي أكثر من مرة، أحببت أصدقاء ورفقاءَ دربٍ تركوني في منتصف الطريق، تُوفي والدي في ريعان شبابه، تهدم كثير من أحلامي لمجرد أني امرأة في وطن شرقي لا يجد فيه الرجل حتى حلمه، عملت بوظائف لا أحبها قبل أن أكتشف أني كاتبة، أخطأت في حياتي كثيراً جداً، وندمت على ما فعلت ندماً مزق روحى، تعرضت للخيانة أكثر من مرة، وأسأت بحق نفسي كثيراً إن لم أكن أسأت بحق البعض أيضاً، تعرضت للخذلان مراراً وتكراراً، أمضيت ليالي أبلِّل وسادتي بدموعي حتى النوم.

فكرت كثيراً بالرغبة في عدم الشعور، بالرغبة في عدم الإحساس بالوجع الذي يملأ شروخ الروح ولا يضمدها؛ بل يزيدها تقرحاً مع السنين، فكرت كثيراً في تجنُّب المشاعر، في البقاء وحيدة بعيداً عن الناس، في الاستغناء عن كل ما يمكنه أن يسبب نزول دمعة واحدة من مقلتي، لكن شيئاً من هذا لم يحدث، فلا أحد يمكنه تجنُّب الأحزان، أو دخول الناس في حياته، كما أنه ليس معصوماً من الخطأ، فكيف يمكنه تجنب الندم والألم والحزن والخوف؟

هذا ظل إيماني بأنه إن وُجِدَت طريقة نستطيع التخلُّص بها من هذه المشاعر، فسيكون هذا طفرة في عالم البشر، حتى رأيته، إنه فيلم يبدو في بدايته بسيطاً جداً، لكنه يُجمِل آلاف الرسائل، فيلم يجعلك تدرك معنى أن تكون بشراً! مدهوشة، أفكر فيمن صنعه ليخبر به العالم بأن الحل ليس كما يظنون أبداً.. أجلس أمام فيلم The giver.

يتحدث الفيلم عن جمع من البشر قرروا أن يصنعوا عالماً من دون ألم، من دون حزن، من دون ندم، من دون مشاعر بشكل عام، لا المُفرِح منها ولا المُحزِن، قرروا أن يطمسوا قدرة الفرد على الشعور، على الرغبة، على الحلم حتى، حتى لا يُحبَط إذا لم تتحقق أحلامه، وحتى لا يتركب في سبيل تحقيق رغبته أي شرور، قرروا أن يجعلوا الجميع متماثلين، متساوين، فتخلوا عن الألوان والأشكال، ليصبح العالم كله واحداً، بلونين أبيض وأسود؛ حتى لا يخلق الاختلاف غضباً أو حقداً أو حسداً، وحتى لا يؤدي إلى القتل أو التدمير أو حتى مجرد الشعور بالرغبة في الإيذاء، ليكون العالم كله مسالماً، هادئاً، لا يوجد فيه فرصة لحرب أو دمار.

وقرروا أن هذا لن يتحقق سوى بتخلي البشر عن الذكريات، فحين ينسى البشر مسبِّبات الشعور نفسها، تختفي المشاعر برمتها، فحين ينسون وجود اللون الأحمر، فلن يميزوا شعورهم بحبه أو كرهه، وحينها لا يعود ثمة سبب للشعور بالحب بشكل عام، أو بالكره، فتختفي المشاعر رويداً رويداً، فقرروا فصل العالم بخط زمني خارج حدود الزمن، يُمنَع منعاً باتاً عبوره، ليظل البشر بداخله غير قادرين على تمييز الماضي أو التعرف عليه، سوى شخص واحد فحسب، يُسمى المانح، يحمل إرث البشرية وتاريخها وماضيها ومشاعرها بداخله، ويستطيع منحها لشخص مثله يُسمى المُتلقي، يتم اختياره بواسطة تقاليد معينة يتم اتباعها، تشبه تداول السلطة، يحملها معه ليكون قادراً على منح النصح لمجلس الشيوخ الحاكم للمجتمع، وليمنع من حدوث أي كارثة محدقة بهد قيم المجتمع وأسلوب حياته، لكن هذا ما لم يحدث مع المتلقي الأخير.

يفتح الفيلم عيون مشاهديه على حقيقة كونهم بشراً، فكونك بشراً لا يُحتمل أن تشعر بالحزن والألم والشقاء فقط؛ بل يُحتمل أن تشعر بالسعادة، بالفرح، بالقدرة على الحب، على العطاء، على الحلم، على الشعور بالتعب والرغبة في النوم أو الاسترخاء.

يفتح الفيلم عيوننا على أن ثمة أشياء كثيرة مبهجة تحدد كينونتنا كبشر؛ كسماع الموسيقي والرقص وتناول أول قطعة من الشيكولاتة أو التزلج على الجليد، كالقدرة على تمييز الألوان، على قراء الأدب والاستمتاع بالفنون والقدرة على خلقها، كالوقوع في الحب، كالإحساس بالأمل، كالعطاء بين أفراد الأسرة، وإن هذه الأشياء المبهجة يقابلها ألم الفقد، وحزن الرحيل، وإحباط الشعور بالفشل في تحقيق الحلم، والقدرة على القتل والتدمير، لكن هذه هي الحياة، هذا هو ما يجعلنا أحياء، لسنا زومبيز، والقدرة على تقبُّل هذا هو أسمى معاني الإنسانية!

ظل السؤال يؤرقني كثيراً: كيف نتخلص من أوجاعنا كبشر؟ ولم أجد الإجابة قط، لكن مع الأيام نضجت شيئاً فشيئاً، فعلَّمتني الدنيا قبول الأحزان والآلام والمخاوف كأجزاء حقيقية من الحياة، لا يمكن تجنُّبها؛ بل مع الوقت سنألفها، لن نبكي رحيل الأحباء بكاءً يمزق الأطلال، ولن نندم على أخطائنا بشكل يجعلنا قساة على أنفسنا؛ لأننا سندرك في النهاية أن هذه الأخطاء هي ما تصنعنا، هي ما تجعلنا الشخصية التي نحن عليها الآن.

وسنحاول بقدر الإمكان أن نلتمس الأعذار لغيرنا، فهذا جزء من النضج الإنساني، فقبلت الحياة على وضعها، لم أعد أحاول أن أغير من أي شيء، لأني ببساطة أدركت أن الألم والحزن والخوف والرهبة والقلق هي أشياء تساهم في تغييرنا للأحسن، إذا لم تزد عن حدها.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد