حينما تَحملُ رقصة في طياتِها كل ثنايا الكون، حينما تَحملُ رقصة في تفاصيلِها كل مشاعر الحب والعشق والشغف تجاه الحياة، وتَحملُ في عطرِها كل مشاعر البهجة والجمال، إنها رقصة التانغو حين تلتقي كل معالم الحياة ببهجتها وألقها وإشراقها.
التانغو مثل الحياة، لا يمكنك أن تسيرُ فيها منفرداً، وعندما يختلط العشق بالشغفِ بحب الحياة تتولد رقصة التانغو، تلك الرقصة التي تُمكّنك من التحليق عالياً نحو السماء، تَمنحك أجنحة وتُعطيك القدرة على الوصول إلى النجوم، وتُولّد لديك الإحساس بأن كل شيء ممكن في هذه الحياة، وأنه ليس هناك معنى لكلمة مستحيل.
هل تعرف معنى أن ترقص التانغو؟ معناه أن تُبسط جناحيك لتحلق عالياً مرتفعاً بذلك عن كل ما يحدث حولك، معناه أن يُصبح لديك القدرة على التصالحِ مع الحياة، أن يكون لديك القُدرة على الحبِ من جديدِ، أن يكون لديك القُدرة على أن تسير على النجوم وتسبح في مياه البحور وتركب مكوكاً فضائياً تخترق به المجرات، أن يتولد لديك من الشغف ما يسمح لك أن تعود لحُب الحياة مرة أخرى.
التانغو لغة رقص متميزة، تشبه في طياتها كثيراً من قصص الحب الأسطورية بكل ما فيها من جنون وتناقضات وعطاء، حيث قانون التانغو الأوحد أنه لا قانون، رقصة تَعزف لحن التناغم مع الحياة، بين عاشق جسور يُقود خطوات شريكه كأنه فارس قادم على حصانه، ومعشوق يُراوغ بخفّة دون فقدان الانسجام في ذاته، رجل مُحب للتسيّد اللذيذ والمُرحب به، وامرأة تُجيد الاستجابة بإغواء ودلال ورشاقة، إنها لعبة عادلة يا صديقي.
بدأ التانغو في التطور في نهاية القرن التاسع عشر في مقاطعات الطبقة الدنيا في بوينس آيرس بالاستناد إلى رقصات العبيد السود والفلاحين المحليين في المدينة، والمهاجرين الإيطاليين والإسبان كانوا أول من قام بالخطوات الأولى برقصة بات اسمُها يقترن باسم الأرجنتين، وقد كانت الموسيقى عبارة عن خليط من عدة أشكال من الموسيقى الأوروبية.
وفي سبتمبر/أيلول 2009 وإثر طلب تقدمت به الأرجنتين والأوروغواي البلدان اللذان انتشرت بهما الموسيقى والرقصة في بادئ الأمر، أعلنت منظمة اليونيسكو أن رقصة التانغو تعتبر جزءاً من "التراث الثقافي الإنساني غير الملموس" في العالم. وقد أصبح الحادى عشر من ديسمبر/كانون الأول هو اليوم العالمى للاحتفال برقصة التانغو.
هناك العديد من أنماط رقصة التانغو تبعاً للمنطقة أو الفترة الزمنية التي تطور فيها النمط وأشهرها: التانغو الأرجنتيني والنيوفو والميلونغا، وترقص هذه الأنماط على العديد من أنواع الموسيقى منها: التانغو والفالس وموسيقى الميلونغا.
وقد استطاع آلباتشينو في فيلم "عطر امرأة" وهو فيلم تراجيدي يقوم فيه آلباتشينو بدور عميد متقاعد أعمى يُرافقه شاب "مايكل" أثناء قضاء الأخير للإجازة الصيفية من الجامعة، وهو الفيلم الوحيد الذي نالَ فيه آلباتشينو جائزة الأوسكار لأفضل ممثل، وتتوالى الأحداث بدرامية تبدأ من مشهد الرقصة التي تجمع الكولونيل مع امرأة جميلة يجذبه عطرها، والتي تحاول أن تعتذر عندما يطلبها لرقص التانغو؛ لأنها لا تعرف كيف ترقص، لكنه يقنعها بأنه يستطيع أن يعلمها الرقص وسط دهشة الجميع.
من خلال أدائه لرقصة التانغو مع "دونا"، هذا المشهد الذى يُصنّف واحداً من أعظم مشاهد آلباتشينو، بل لعله من أعظم مشاهد الرقص الخالدة في تاريخ السينما على الإطلاق، بأبعاده الروحية والحسيّة وفي سياقِه الفلسفي، ويأتي إبداع المشهد في قدرته على تعريف رقصة التانغو والذي يجعلك تتساءل هل يحتاج التانغو إلى البصر؟ لا يا صديقي إنه فقط في احتياج إلى بصيرة، إنه فقط يحتاج إلى إحساس عالٍ وقدرة على تَفهّم الشريك، دونا التي كانت تترقب قدوم مايكل الذي لم يأبه بوحدة الانتظار، هي أحبّت التانغو بالفعل، وكان لديها الرغبة لتعلمه، لكن مايكل كان يرى أنها "رقصة للمجانين"، ويقول آلباتشينو لدونا: "حسناً مايكل إذاً لا يُطلب منك تعلمه؟ أعتقد بأن مايكل هو المجنون، دعيني أعلمك التانغو"، ترتبك وترد: "أخاف الخطأ"، يُجيبها الكولونيل بالجملة الخالدة عن التانغو: "لا أخطاء في رقصة التانغو يا دونا، فهي ليست كالحياة، وإذا ما ارتكبتِ خطأ، فقط استمرّي في الرقص، وهذا ما يجعل التانغو عظيمة"، كيف يمكن لجملة قصيرة كهذه أن تختصر فلسفة التعمق في التانغو وتُفسر معها فلسفة كون بأكمله؟
لا خطأ أبداً ما دامت هذه الرقصة قادرة على تحريرك، لا خطأ ما دمنا نُقدم على جنون التانغو برغبة تامة وصادقة لتحرير أنفسنا، لا خطأ ما دامت عثراتنا تصاغ بنشوة الأمل، تلك الرقصة التي تُبنى على الارتجال وحُب اللحظة ورغبتنا في المغامرة، رقصة التانغو التي تُخبرنا مرة أخيرة أنّ حياة كاملة من الممكن أن تعاش خلال عدة دقائق لنرى فيها كل توهج ومتع الحياة.
عندما بَدأتُ برقصِ التانغو في 2007 كنت أبحث عن لغة أستطيع بها التعبير عن نفسى، فكما يقول لي المُقربون دائماً: "أنا لا أتقن الحديث في لحظات الضيق ولا أرغب به أيضاً"، ولكني بَدأتُ حينها في إتقان لغة جديدة أصبحت بها قادرة دائماً على الحوار والحديث في أشدّ لحظات ضيقي، أصبحت بها قادرة على الكلام والتعبير عن كل ما يَختلجُ بقلبي، أصبح قلبي قادراً على النبض من جديد، هذا الوله الذى يأخذك معه إلى قمة الألقِ ويجعلك تخطو متماهياً في أركان الكون؛ ليأخذ بيدك ويُنير لك عتمة الطريق بالأمل والشغف والحب.
اُرقص، ارقص يا صديقي، ارقص حين يُصبح الرقص دواء، ارقص حين يُصبح الرقص حواراً، ارقص حين يُصبح ما يعتمل بداخلك أكبر من التصريح والإخبار، اُرقص حين تتوه الكلمات، اُرقص حين يُصبح الحزن أكبر من الحديث والإنصات، اُرقص لكي تُصبح إنساناً، أو كما يقال "عندما يُصبح الرقص لغة تتحدث بها إلى العالم، فتحدث لكي أسمعك"، لا تشاركوا دقائقكم مع من لا يُحب رقصة التانغو، اُرقصوا التانغو ولو لمرة واحدة في أعماركم، مَن يرقص التانغو يُولد من جديد.
يقول محمود أغيورلي: "الحياة كما رقص التانغو، يحتاج دوماً إلى اثنين، ربما سيرحل شريكُكَ وسيتقاعس، لا تنظرُ إليه، دعه، لا توقف الرقصة وابحث عن شخصٍ ثانٍ، فالحياة معزوفة واحدة وساحة الرقص لا تُترك خاوية"، الرقص ليس كأي شيء آخر، إنه لن يخذل إيمانك به أبداً؛ لأنه يعطيك قبل أن تؤمن".
شاهدوا واستمتعوا برقصة التانغو الشهيرة في فيلم "درس التانغو".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.