يعتبر المديح النبوي بموريتانيا أحد الألوان الفنية والثقافية المتجذرة لدى الشعب، حيث يتميز بطابعه الديني الذي يتجلى في محتوى الأغاني ودلالتها واقتصارها على مدح الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ونثر سيرته في شكل غناء يطرب له السامعون، ويسمر خلال أدائه آلاف الموريتانيين في مختلف مناطق الوطن.
ثقافة أصيلة
يرى الباحث الشيخ ولد عابدين أن المديح النبوي ثقافة موريتانية أصيلة نشأت في البادية، ويعبر من خلالها الفنان أو "المداح" (كما هو شائع محلياً)، عن التعلق بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وشمائله، ويتباهى الفنانون بترديد الأشعار، والقصائد المديحية في شكل فني جميل يتعاطى معه المستمعون بوجدانهم لارتباطه بالدين الإسلامي الحنيف.
ويؤكد ولد عابدين في حديث لـ"عربي بوست"، أن المديح النبوي فن تراثي يتعاطاه جميع الفنانين؛ بدءاً بفرق الفن المعروفة محلياُ بــ"إكوان"، مروراً بـ"المدّاحه"، وهم فرق فنية شعبية مختصة بأداء المديح النبوي خلال سهرات ليلية تنظم على نطاق واسع وبشكل مستمر في أنحاء الوطن كافة.
ويضيف الباحث ولد عابدين أن فن المديح النبوي هو ذلك الفن الذي تتبع كلماته وأغانيه السيرة النبوية، وهو في مخيلة الموريتانيين نموذج للسمو، والروحانية، وينظم المديح النبوي عادة على شكل سهرات ليلية تستقطب السامرين والساهرين كافة، ومن النادر أن تكون بموريتانيا وتسمع المديح النبوي ولا جذبك.
سهرات المديح من دون آلات موسيقية
يتميز المديح النبوي الشعبي في موريتانيا بأنه يؤدى بشكل جماعي، ولا تستعمل للغناء المديحي أي آلات موسيقية؛ بل تطلق حناجر "المداحة" أصواتها البهية بألوان المديح النبوي الذي لا يخضع في الغالب لأي مقامات غنائية، ولا يلتزم "المداحة" في بعض الأحيان بوزن ولا بقافية.
ويضيف الباحث أن المديح يتألف من نثر للسيرة النبوية في شكل غناء، وعادة ما يكون بعض المداحة هو من ينسج تلك المدائح، والتبتلات من فكره، وهو ما جعل المديح النبوي دائماً يؤدى باللهجة المحلية في شكل فني يتقارب مع أداء الفن التقليدي الموريتاني "لغن"، من حيث نظم وتشكيل كلمات المديح.
ويرى الكاتب والباحث الشيخ داده ولد آباه أن المديح النبوي وسيلة لتعلم السيرة النبوية، وترسيخ القيم الإسلامية بين أبناء الشعب الواحدة بطريقة تقليدية ظلت تحافظ على شكلها ومضمونها مع تغير بسيط في اللغة وانتقاء العبارات.
وأشار ولد آباه، في حديث لـ"عربي بوست"، إلى أن المديح النبوي فن تقليدي موريتاني وليد البادية، لكنه سافر إلى المدينة في ظل تلاشي الحواجز بين الحضر والبداوة في الوقت الراهن، مؤكداً أنه حافظ على شكله ومضمونه دون تسجيل أي تغيير.
ويعتبر ولد آباه أن المديح النبوي يختلف عن غيره من الفنون الثقافية الأخرى، من حيث الشكل والأداء، والتوقيت، مشيراً إلى أنه يركز أساساً على استعراض السيرة النبوية، حيث يمكن للمتتبع لكلماته أن يقرأ ويتعلم، وهو ما جعل الذاكرة الجمعوية لدى الموريتانيين تفيض بقصص السيرة وتغوص في أعماقها.
للمديح مناسبات مخصصة
دأب الموريتانيون على التغني بالمديح النبوي الشعبي في أوقات ومناسبات خاصة، حيث يتم التغني به كل ليلة جمعة، وطيلة شهر المولد النبوي الشريف، وشهر رمضان الكريم، وهو الأمر الذي جعل منه فناً ثقافياً وجدانياً له مسحته الدينية، والروحية الخاصة.
ويعتبر رئيس مركز "ترانيم للفنون الشعبية"، محمد عالي ولد بلال (في افتتاحه إحدى الندوات)، أن المديح النبوي الشعبي ارتبط في الثقافة الموريتانية ببعده الديني فغلبت عليه الرغبة في نيل الثواب الأخروي، لهذا اختير لأدائه ظرف زماني خاص مثل ليلة الجمعة، أو مناسبة المولد النبوي، أو خلال شهر رمضان المبارك.
ويؤكد الباحث الشيخ ولد عابدين أن المديح النبوي فن يعبر عن مستوى الاندماج المجتمعي في الثقافة المحلية، كما أنه لوحة فنية وثقافية للتعبير عن الوجدان والانسجام الديني.
وخلص ولد عابدين إلى أن المجتمع الموريتاني ظل منذ القدم يحافظ على المديح النبوي في شكله التقليدي الديني، وهو ما جعل البلاد تعرف العديد من الفنانين المعروفين محلياً باسم "المداحة" يؤدون كلمات المديح، ويحافظون على أدائه؛ ما جعله فناً تقليدياً يزداد التمسك به كلما ابتعدت عن المدينة باتجاه البادية، رغم أنه طرق باب المدنية بشكل لافت.