تقف المهندسة الإيرانية الأميركية، أنوشة أنصاري، على خشبة المسرح لتقرأ على مسامع الحاضرين: "إن غيابي عن تسلم الجائزة هذه الليلة هو بدافع الاحترام لأبناء بلادي، وهؤلاء الذين ينتمون للدول الـست الذين صدر بحقهم القرار غير الإنساني بالمنع من دخول الولايات المتحدة".
أنصاري التي كانت واحدة من ضمن أول مجموعة من السائحين الذين صعدوا إلى الفضاء، ألقت كلمتها نيابة عن أصغر فرهادي، الفائز بجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي عن فيلمه "انفصال". وقد جذب أصغر انتباه العالم بهذه الكلمات، بعدما تمكن سابقاً من جذب الأنظار نحو السينما الإيرانية منذ العام الماضي عندما فاز فيلمه "انفصال" بجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي، وهي المرة الأولى التي يحصل فيها فيلم إيراني الأصل على جائزة بالأوسكار.
#اصغرفرهادي دومين اسكار سينماي ايران را براى فيلم #فروشنده شكار كرد…
مرسي كه خاطره سازي… pic.twitter.com/Mssoltt8Gj— ولگرد (@_velGard) February 27, 2017
الأوسكار الثانية التي نالها فرهادي، أصبحت معها السينما الإيرانية في دائرة الضوء بشكل أكبر وأكثر قوة.
البدايات المتعثرة للسينما الإيرانية
شهدت إيران صراعات عدة، وتقلبات سياسية وأيديولوجية، ألقت بظلالها على الواقع والمجتمع، وأثرت تلك التقلبات بدورها في الحياة بإيران، وفي السينما كذلك.
فقد شهدت إيران المراحل الأولى للاهتمام بالسينما في بدايات القرن الـ20، عندما أمر الشاه مظفر الدين بشراء الأدوات والمعدات اللازمة من الخارج، لإنشاء أول سينما في إيران، وكانت العروض حينها تقتصر على صور متتالية لمناظر طبيعية.
لكن التطور ظهر سريعاً في السينما الإيرانية على أيدي أوفانيس أوهانيين، الذي درس السينما في موسكو، ثم عاد إلى إيران ليُنشئ أول معهد لتدريس السينما، فأخذت السينما الإيرانية معه منحى جديداً في هذه المرحلة، واستمرت في التطور خلال عصر الشاه رضا بهلوي وابنه من بعده.
غير أن توجهات الشاه محمد رضا بهلوي حينها ناحية الغرب وأمريكا، جعلت من السينما الإيرانية تقليداً أعمى لكل ما هو أجنبي، ولم تعكس السينما حينها طابعاً إيرانياً أصيلاً، بل اقتصرت على أفلام مترجمة من أميركا والهند وغيرهما، مع استحضار طفيف لقضايا مثل الاغتراب والتمدن ببعض الأفلام التي شكلّت قلّة إنتاج السينما الإيرانية حينها.
الثورة الإسلامية تُحاصر المجتمع.. والسينما
وتطورت السينما الإيرانية سريعاً، ليُحاول صُناعها اللحاق بالركب الغربي في أيام الشاه، لكن الثورة الإسلامية التي قامت عام 1979، والتي قلبت الأمور في إيران رأساً على عقب، ليهرب الشاه ويتولى الحكم آية الله الخميني، جعلت صناعة السينما بأكملها في مأزق.
فالخميني يعتبر السينما "رمزاً للانحطاط الغربي"، وهي وجهة النظر التي جعلت حرق دور السينما فوق رؤوس أصحابها في تلك الفترة بإيران أمراً هيناً على أتباع الثورة الإسلامية ومؤيديها.
جانب من حريق سينما ركس، إيران بعد الثورة الإسلامية
أغلقت دور السينما، وتوقفت صناعة الأفلام عن العمل لعدة سنوات، قبل أن تتجه الجمهورية الإسلامية لمحاولة التصالح مع العالم من حولها، وتبدأ في منح التمويل اللازم لصناعة أفلام تعكس الواقع الإسلامي في إيران، حيث لا اختلاط أو تلامس بين رجل وامرأة.
بل إن الأفلام الإيرانية في بداية عهدها مع الثورة الإسلامية لم يكن يُسمح للمرأة بالظهور بها بأي طريقة، وكذلك فُرضت رقابة صارمة على الأفلام، حيث أنشئ "معهد الأفلام الإيرانية" وهو المؤسسة المنوط بها الرقابة على صناعة السينما في إيران بأكملها.
وقد كان استمرار الجمهورية الإسلامية، وتعاقب الحكم الإسلامي المتطرف أحياناً، والمتهاون أحياناً في إيران هو عقبة جديدة في تاريخ صناعة السينما الإيرانية، وهي العقبة الأهم، التي جعلت السينما على ما هي عليه الآن، حيث إنها منحت صناعة السينما قيوداً عديدة تبحث عن مخرج منها، وجعلت صُناع السينما يبحثون عن سُبل جديدة للخروج من الحيز الذي تفرضه عليهم الحكومة الإيرانية ورقابتها.
سينما تتهرب من الرقابة وتحصد الجوائز العالمية
فرضت القيود المفروضة على صناعة السينما في إيران واقعاً جعل من العسير على صُناع السينما إخراج أفلام تُعبر عن وجهات نظر قد لا ترضى عنها الجمهورية الإسلامية، لكن هذه الرقابة الصارمة اتجهت بصُناع السينما لمحاولات الخروج عن النمط، ومنحت السينما الإيرانية طابعاً مميزاً وأصيلاً، ظهر في أفلام نالت شهرة عالمية، وحصدت جوائز عدة، استطعنا أن نرى معها نماذج لمخرجين إيرانيين تميزوا في الهرب من مصيدة الرقابة، وإخراج أفلام تحمل بصمتهم الخاصة للعالم.
ومن هذه النماذج:
عباس كياروستمي
أحد أشهر المخرجين الإيرانيين، حيث وضع الأفلام الإيرانية على خريطة الجوائز العالمية بعد فوز فيلمه "طعم الكرز" بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي الدولي عام 1997.
وتحمل أفلام كيارستمي طابعاً وثائقياً، ففيلمه "الحياة.. ولاشيء بعد" مثلاً، كان محاولة لتوثيق الفترة التي تلت زلزال 1990 المدمر بإيران، وهو الفيلم الذي تم تصوير أغلبه بسيارة يبحث صاحبها عن صديقه في إحدى المناطق المنكوبة، وهي الشهرة التي نالها كيارستمي فيما بعد، حيث مثلت السيارة جزءاً هاماً من أفلامه، التي اعتبرت أحياناً إحدى الوسائل التي استخدمها للهرب من الرقابة كذلك.
جعفر بناهي
يُعد بناهي أحد المغضوب عليهم في إيران، فخروجه في مظاهرات "الحركة الخضراء" عام 2009، والمعارضة لسياسات الرئيس أحمدي نجاد حينها، جعل قراراً يصدر ضده بالإقامة الجبرية في منزله، والمنع من تصوير أو إخراج الأفلام لمدة 20 عاماً.
وتم إبطال قرار حبسه بعد عدة شهور، لكنه كان ممنوعاً من ممارسة التصوير والإخراج، وهو ما لم يمنعه من ممارسة عشقه للسينما.
فأحد أفلامه "تاكسي، وهو الفيلم الذي نال عنه جائزة "الدب الذهبي" في مهرجان برلين السينمائي عام 2015، قام بتصويره من خلال كاميرا خفية في تاكسي خاص به، قام عن طريقها بتصوير حواراته مع الركاب، ويتم تهريب فيلمه الممنوع من العرض في إيران للخارج.
لم يكن قرار منع بناهي من الإخراج سوى حلقة في سلسلة طويلة من محاولات فرض السيطرة على صناعة السينما في إيران، فهي سينما لا بد أن ترضى عنها الدولة، وهو ما لم يكن يشغل بال جعفر بناهي كثيراً، لنراه بعد عامين من إلغاء قرار حبسه -في حين يستمر قرار منعه من الإخراج- يصور فيلماً جديداً بكاميرا خفية، في منزله هذه المرة، يسجل فيه حواراته مع زواره، ويقوم مرة أخرى بتهريب فيلمه ليُعرض في الخارج، ويرى العالم من خلاله حياة بطله، ومخرجه تحت اسم ساخر هو "هذا ليس فيلماً".
أصغر فرهادي
نال أصغر فرهادي شهرة عالمية بعد حصول فيلمه "انفصال" على أوسكار أفضل فيلم أجنبي للعام السابق، وحصول فيلمه "البائع" على نفس الجائزة للعام الحالي.
تأخذ أفلام فرهادي طابعاً اجتماعياً، فهو يحاول الابتعاد عن السياسة في أفلامه، ويتجه للتعبير عن الحياة بتعقيداتها ومشكلاتها المختلفة، وهو يعلن: "إنني أفحص الحياة بنظرة متشائمة، وأحاول تعريضها للأسئلة، وأحاول أن تنكشف حكاياتي أمام أسئلتي. أستبعد تلك التي لا تجد ما تستطيع أن تستر عيوبها به أمامي، أما التي تنتصر، فهي تلك التي أستطيع أن أتخيل شخوصها أحياء، ثم أمنح كلاً منهم زماناً ومكاناً ووجهاً".