"أيقظه صوت سفينة مغادرة. لم يكن ما رآه سوى حلم. ماتت مريمة منذ زمان والعصافير لا تسكن القبور، لا بد إذن من الرحيل".. بهذه الكلمات، نسجت رضوى عاشور نهاية رائعتها الروائية "ثلاثية غرناطة". عن شعب أفني عن بكرة أبيه. فالسفينة التي كانت تغادر ما هي إلا كناية عن هجرة شعب بأكمله عن أرضه وأرض أجداده التي بنوا فيها حضارة امتدت لعدة قرون.
لكن الموريسكيون كان لديهم أدوات أخرى في هذه الحرب التي شنها الكاثوليك على ثقافتهم وتراثهم؛ حفظوا بها تاريخهم للعالم.
الموت في الرحيل وليس في البقاء
لم تكن المصيبة الحقيقية تكمن في زوال دولة الأندلس واستيلاء الكاثوليك على مقاليد الحكم في البلاد. بل كان التعدي على الأرواح وطمس الهوية التي استمرت لثمانية قرون على هذه الأرض هو الفاجعة الحقيقية.
صدرت الأوامر بتعميم مضمون معاهدة تسليم غرناطة -آخر حصون المسلمين في الأندلس- عام 897هـ / 1491م على الأمراء والوزراء والقادة والرهبان والرعية، وتم إصدار مرسوم يهدد كل من يجرؤ على المساس بما تضمنته هذه المعاهدة. فأدى الملك فرديناند -ملك أراغون- والملكة إيزابيلا -ملكة قشتالة- وسائر من حرروا الشروط القسم بدينهم وأعراضهم، أن يصونوا المعاهدة إلى الأبد، وعلى الصورة التي انتهت إليها.
ومن خلال شروط المعاهدة يتبين لنا بأنها كفلت للمسلمين حريتهم ولغتهم وشعائرهم الدينية وعاداتهم وتقاليدهم، باستثناء حمل الأسلحة.
ولكن الملكين الكاثوليكيين نقضا العهد. ووضعا خطة لإبادة المسلمين الباقين في الأندلس على أساس عقيدتهم الدينية، فشكلا "محاكم التفتيش" التي تتعقب من يؤدي شعائر الإسلام بأية صورة، فكان من جراء ذلك أن أظهر عدد من المسلمين المسيحية وأبطنوا الإسلام، وأطلق على هؤلاء اسم "الموريسكيين" أي المسلمين الصغار.
لم يكن الملكان الإسبانيان صادقين فعلًا، لأن نقضهم للمواثيق بدأ منذ دخولهم غرناطة 2 ربيع الأول 897هـ/ 2 يناير 1492م، عندما صدرت الأوامر بإحراق كميات كبيرة من الكتب العربية، لكي يسهل على الإسبان إبعاد المسلمين عن مصادر عقيدتهم ومن ثم القضاء عليهم بسرعة.
ظل هؤلاء المسلمون يقاومون الاضطهاد ما يزيد على القرن من الزمان؛ دفاعًا عن عقيدتهم وكيانهم، فبعد رحيل السلطان أبي عبد الله الصغير -آخر ملوك الأندلس المسلمين- إلى عدوة المغرب، بدأ مسلمو الأندلس بالهجرة من الأندلس إلى المغرب، كما جاء في شروط التسليم، التي سهّلت لهم هذه المهمة وهي التزام الملكين الإسبانيين بتوفير السفن لنقل مسلمي الأندلس إلى المغرب مجانًا ولمدة ثلاث سنوات، وبعدها يدفع من يريد العبور دوبلًا واحدًا عن كل شخص، والدوبل عملة ذهبية إسبانية قديمة.
الكتب المحفوظة في صندوق مريمة
في تشبيه بليغ في "ثلاثية غرناطة"، لمّحت رضوى عاشور دائماً إلى التراث الأندلسي الهائل خاصة الموريسكي، والمحفوظ بعيدًا عن أعين الكثير، خاصة عن الأحفاد الذين نشأوا بعيدًا عن أرض الأندلس. حيث أن الأندلس مر عليها الكثير من القادة العظام الذين فتحوا أفاقاً كبيرة للمسلمين الأندلسيين.
كان من هؤلاء "عبدالرحمن الداخل" الذي نشأ في بيت الخلافة الأموية، وعندما بلغ رَيْعَانَ شبابه، انقلب العباسيون على الأمويين، واعملوا فيهم السيف حتى لا يُفَكِّر في الخلافة أحدٌ منهم؛ فكانوا يقتلون كلَّ مَنْ كان من البيت الأموي، وكان هذا في سنة 132هـ.
انطلق عبدالرحمن هارباً في قصة هروب طويلة، ووصل نهاية الأمر إلى الأندلس التي لم تكن فقط وجهته الوحيدة التي يستطيع اللجوء إليها، بل كانت أيضاً مطلبه وغايته وهدفه القديم منذ أن سمع عنها صبيًاً. خلال سنوات معدودة، استطاع "الداخل" وأد الفتن وإقامة دولة نافست جميع مدن أوروبا الكبرى، بل نشأ بها ثاني أكبر مكتبة في العالم بعد مكتبة بغداد في ذلك الوقت.
بقيت هذه الدروس والعبر للأندلسيين العظام محفورة في عقول الموريسكيين الأوائل، ونما لدى الموريسكيين قناعة أن عليهم أن يسلكوا ما سلكه أجدادهم؛ لتحقيق الظفر بعد أن أُبيدت دولتهم. "يكمن الموت في الرحيل وليس في البقاء"؛ هكذا نَمت قناعاتهم وعملت أيديهم ليحافظوا على ما تبقى من تراثهم.
حرب الهوية، والمحافظة على الأسرار
تُعد "قصيدة يُوسُف Poema de Yuçuf" من أهم المنتجات الفكرية الكبيرة في ذلك الوقت، وهي تنسب إلى مؤلف مسلم مجهول من إسبانيا في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الميلادي تقريبًا -حسب تقدير المستشرق الإسباني رامون مننديث بيدال- وهي مكتوبة باللغة الأراغونية المكتوبة بحروف عربية "الألخميادو".
تحكي القصيدة قصة النبي يوسف من وجهة النظر الإسلامية، وينطوي محتواها على عناصر من القصة القرآنية الواردة في سورة يوسف. لكن المهم بالنسبة لهذه القصيدة هي اللغة التي كُتبت بها "الألخميادو". أصبحت الألخميادو هي أداة المحافظة على الأسرار الموريسكية المتبقية بعد ما حل بهم من بلاء.
لعبت الألخميادو دوراً فائق الأهمية في الحفاظ على الإسلام واللغة العربية في حياة الموريسكيين. إذ كُتبت الإسبانية في ذلك العصر بالأبجدية العربية من قبل المورسكيين والشعراء المسلمين في أوروبا. ففي عام1567، أصدر فيليب الثاني -ملك إسبانيا آنذاك- أمراً ملكياً أجبر من خلاله الموريسكيين على ترك استخدام اللغة العربية في جميع المناسبات، في الأحوال الرسمية وغير الرسمية، كلاماً وكتابةً.
وقد اعتبر استخدام اللغة العربية في أي ظرف جريمة. وأعطى المسلمين مهلة ثلاث سنوات لتعلم اللغة الإسبانية المسيحية، بعدها تم التخلص من كل المواد المكتوبة باللغة العربية. بعدها ترجم الموريسكيون كتب الدين والأحاديث النبوية إلى الألخميادو، أي اللغة الإسبانية المكتوبة بحروف عربية.
وحافظ الموريسكيون على الآيات القرآنية باللغة العربية. وكانت لفائف الألخميادو يتناقلها الموريسكيون. وقد عرف المؤرخون بأدب الألخميادو فقط في مطلع القرن التاسع عشر. وبعض لفائف الألخميادو مُحتفـَظ بها في المكتبة الوطنية الإسبانية في مدريد حتى الآن.
وعن أسباب استخدام الموريسكيين للأبجدية العربية في لغة الألخميادو، بالرغم من المخاطر التي قد يتعرضون لها من محاكم التفتيش الإسبانية، يقول الدكتور علي الكتاني، مؤلف كتاب انبعاث الإسلام في الأندلس، "إن تدوين هذه اللغة بحروف عربية يعكس رغبة هؤلاء الكتاب في التعبير عن الانتماء لعقيدة الإسلام الجماعية".
ويضيف الكتاني، "لقد أدرك الموريسكيون أن الذي يفقد لغته العربية يفقد أيضاً دينه. لذلك استعملت اللغة الألخميادية المورسكية أبجدية القرآن تعبيراً عن الارتباط الثقافي والروحي بالأمة الإسلامية."
الموريسكيون الجدد
في خبر عابر نهاية شهر أبريل/نيسان الماضي؛ طالب ناشطون وباحثون مغاربة من أصول موريسكية، إسبانيا بتقديم اعتذار رسمي لهم عن طرد وتهجير أجدادهم منها قبل أربعة قرون، على غرار ما قامت به تجاه اليهود العام الماضي.
ودعا الناشطون -خلال مؤتمر حول القضية الموريسكية عُقد بالعاصمة المغربية الرباط- إسبانيا إلى قبول ذاكرتها بما لها وما عليها، ومراجعة قراءتها لما اقترفته في حق المسلمين الذين قدّموا موروثاً حضارياً كبيراً على أرضها لثمانية قرون.
وسبق أن ردّ القضاء الإسباني السنة الماضية الاعتبار لليهود المعروفين "بالسفارديم" الذين طُردوا مع المسلمين قبل أكثر من أربعة قرون. أما مئات الآلاف من المسلمين الذين تعرضوا للاجتثاث وموجات التقتيل والتهجير فقد طويت صفحتهم، ولم يجد المشرع الإسباني حاجةً للتصالح مع هذا الجانب من الإرث القاتم للتاريخ الإسباني.