لستُ عاشقة لـ”النوستالجيا”

تقوم إحداهما بتشغيل أغنية لمحمد عبد الوهّاب، فتُدرك في الحين أنها أفِلت في عوالم أخرى وحدها هي من تَترف بها، تَطرب للموسيقى الفاصلة بين الكلمات جوارحُها كلّها، تتدخّل الأخرى لتكدّر اللحظة الباذخة فتنبس، كدأبها، بنفس الجملة عن كلّ أغنية عتيقة طويلة: رجاء.. ألا تتوفّرين على نسخة مختصرة؟ فتفتحان نفس الحديث العقيم الذي لا يؤدّي إلا إلى تعصّب كلتيهما لرأيها أزيد ممّا سبق.

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/08 الساعة 01:29 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/11/08 الساعة 01:29 بتوقيت غرينتش

تقوم إحداهما بتشغيل أغنية لمحمد عبد الوهّاب، فتُدرك في الحين أنها أفِلت في عوالم أخرى وحدها هي من تَترف بها، تَطرب للموسيقى الفاصلة بين الكلمات جوارحُها كلّها، تتدخّل الأخرى لتكدّر اللحظة الباذخة فتنبس، كدأبها، بنفس الجملة عن كلّ أغنية عتيقة طويلة: رجاء.. ألا تتوفّرين على نسخة مختصرة؟ فتفتحان نفس الحديث العقيم الذي لا يؤدّي إلا إلى تعصّب كلتيهما لرأيها أزيد ممّا سبق.

يذكّرني حديث صديقتيّ هاتين بمشهد في الفيلم الفرنسي "المنبوذون" المستوحاةُ قصّتُه من الحقيقة، للمخرجين إيريك توليدانو وأوليفير ناكاش، تدور أحداثه حول شخصين ينحدران من خلفيتين اجتماعيتين مختلفتين، أحدهما غني "فيليب"، والآخر فقير "إدريس"، يستأجر الأول الثاني للعناية به بسبب شلل أصيب به، إثر حادثة قفز بالمظلّات، فتغدو هذه الصحبة نقطة انعطاف في حياته.

الحدث الذي يهمّنا هنا هو يوم ذكرى ميلاد فيليب الذي تقام له دائماً بهذه المناسبة حفلة خاصة تحييها الموسيقى الكلاسيكية، يطلب فيليب من إدريس أن يصيخ السمع لبعض مقاطع موسيقى موزارت، شوبان، باخ وفيفالدي؛ كي ينفتح على هذا النوع الكلاسيكي، الطريف في الأمر ألا يتعرّف منها إدريس إلا على مقطوعات تمّ استعمالها في إعلان ما وفي الاستقبال الخاص لجمعية معينة، وأخرى استخدِمت في كارتون "توم وجيري"، ينقلب الحفل بعد ذلك لتصدح في أرجاء القصر الأغاني الحديثة التي يفضّلها إدريس.

إنّ قلّة الصّبر هذه والهوس بالسرعة توغّلت في جميع مناحي حياتنا اليومية، فتجدنا نتحرّى النتائج الفورية في كلّ شيء، والأدهى أننا نريد أن تكون هذه النتائج إيجابية، نريد أن ندرس بتفوّق بسرعة، نجد عملاً عظيماً بسرعة، نحقّق مشروعاً مربحاً خاصّاً بنا بسرعة، نقوم بإنجازات باهرة بسرعة، وننجح نجاحاً مشرقاً بسرعة، فنجد أيام عمرنا تمرّ هي الأخرى بوتيرة أسرع، لا فرح نطيب به في رِسْل وسكون، ولا حزن نعيشه في رويّة وهدوء، عاقبةً لهذه السرعة، نصاب بالنسيان ولا نتّعظ بشيء… تجاربنا وذكرياتنا تتوارى هي الأخرى في غياهب الذاكرة، فلا تسعفنا حين الحاجة إليها، غضباً منّا، على عدم إعطاء كلّ تفصيلة من تفاصيل حياتنا حقّها، يظهر هذا جلّياً على المواقع الاجتماعية التي تنهمر فيها الأحداث كالسيل، ما إن تقع واقعة حتّى ينجرّ إلى الحديث عنها كافة مستعملي هذه المواقع، فيُخيّل إليك أن انفعالهم هذا سيأخذ شهوراً كي يهدأ، ثمّ تجده بغتة يتلاشى في بعضِ يومٍ بمجرّد حدوث واقعة أخرى.

هذه العلاقة التناسبية بين درجة السرعة مع حدّة النسيان، ودرجة البطء مع حدّة الذاكرة، يذكر بصددها الروائي الفرنسي ميلان كونديرا في روايته "البطء" مثالاً: "وضعيةٌ قد تبدو عادية للغاية: رجل يسير في الشارع، ثمّ فجأة يريد تذكّر أمر ما، لكن الذاكرة لا تسعفه. في تلك اللحظة، بطريقة آلية يتمهّل في الخطو، أمّا من يسعى إلى نسيان طارئ شاقّ وقع له توّاً، على العكس يسرع، لا شعورياً، في مشيته، كما لو أنّه يروم الابتعاد عن طارئ ما زال، من حيث الزمن، قريباً جدّاً منه".

ثمّة خطّ رفيع بين الفخر بالماضي والنوستالجيا لا شك.. لست من عشّاق هذه الأخيرة.. أطالب فقط بوقفة تأمّل وإدراك لما نحن عليه الآن.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد