تضج مواقع التواصل الاجتماعي الآن بمقاطع فيديوهات وروابط أخبار تتحدث عن "عثمان مولين"، الشاب المغربي الوسيم، خريج إحدى أرقى مدارس الإدارة الخاصة بالمغرب، الذي اختار أن يخلع قبعة الهندسة ويحمل البندير "الدف"، ويغير الوجهة إلى مجال بعيد كل البعد عن دراسته؛ ليستثمر وقته وجهده في غناء العيطة.
ولغير المغاربة فإن العيطة "فن مغربي قديم ظهر منذ عصور سلاطين المغرب، وتبلور بقوة أثناء الاستعمار الذي تعرض له هذا الأخير كنوع من المقاومة ضد المحتل، وهو لون غنائي يعتمد على أشعار تحمل معاني مرمزة لا يفهمها إلا أصحاب الأرض، كنوع من شفرة سرية بين المقاومين من النساء والرجال ضد العدو"، حسب "ويكيبيديا".
أن يتجه مهندس شاب ينحدر من عائلة ميسورة إلى الغناء أمر عادي وشائع، فأغلب المشاهير لم يدرسوا الفن، لكن أن يقوم هذا المهندس باختيار نوع "جد" شعبي من الغناء، وأن يصر على ممارسته في الأعراس والحفلات الخاصة مرتدياً ثياباً "كاجوال " على الموضة، فهو أمر غير مألوف، وقد يكون غير مقبول لدى الكثيرين، الذين اعتبروا أن ما يقوم به عثمان سيقضي على تراث جميل -نستمع إليه فقط في المناسبات والأعراس- وعلى نخبة المجتمع، باعتبار أن اختيار مهندس لمهنة الغناء الشعبي عوض العمل المكتبي يسهم في خفض الطاقات الشابة المنتجة في البلاد، لكن وبالأرقام فإن مداخيل هذا الشاب من العيطة في الليلة الواحدة قد تفوق ما قد يجنيه في ستة أشهر من العمل كمهندس، وبالتالي فإن توجهه للغناء الشعبي سيوفر له وضعاً اجتماعياً أفضل بكثير من الهندسة أو إدارة الأعمال، وهذا ما يبحث عنه الشباب الآن: سبل "العيش الكريم"، فلِمَ لا تغير المسار من الألف إلى الياء، إذا كان في ذلك مصلحة لا ضرر؟!
ما لفت انتباهي في قصة عثمان ليس ما سبق ذكره، فقد نختلف أو نتفق في مدى صحة اختياره أو دوافعه، لكن ما جعلني أهتم بموضوعه وأجعل من قصته موضوع رجوعي للكتابة، التي توقفت عنها منذ سنوات، هو حبه لما يقوم به، والظاهر من خلال صوره بـ"البندير"، وحماسته الكبيرة وهو يطلق العنان لصوته لينضح بأصعب مواويل العيطة وأقدمها، وانسجامه مع أعضاء فرقته، هذا الدفء لا يمكن أن ينبع إلا من قلب يحب ما يعمل، فذكرني بجملة "السعيد هو من يستطيع أن يجعل من هوايته مصدر رزق له"، ترددت هذه الجملة كثيراً على مسامعي من طرف صديقتي الرائعة أمينة أكوديان، مدربة للتنمية البشرية، وذلك لتدفعني لاستثمار قدراتي وكفاءاتي المدفونة؛ لأخرج من دوامة الانكسار والاكتئاب التي مررت بها بعد تركي للصحافة ووفاة أمي.
أرادت مني هذه السيدة الفاضلة أن أستجمع قواي، وأن ألملم ما تبقى من أسلحتي، وأحارب من أجل نفسي، وهذا ما كان فعلاً.
كلامها جعلني أبحث في لائحة هواياتي عن شيء أحبه وأتقنه، لأقوم به وأتميز فيه، فوجدت الكثير، بدأت أولاً بتنشيط دورات التغذية والطبخ الصحي للأطفال، فكان الإقبال كبيراً من طرف الأمهات للتعرف على الطرق الصحيحة والجديدة لتقديم أشهى وألذ الأطباق لأطفالهم، دون إغفال القيمة الصحية والمحافظة عليها.
بعد هذه التجربة المتميزة، اتخذت حياتي مساراً آخر، مع هواية أخرى، وهي "اليوغا"، صحيح أن التغذية السليمة، ورياضة اليوغا، تدخلان تحت نفس النسق "زين"، إلا أن أجعل منهما مورد رزق، فهذا تطلب مني مجهوداً خرافياً لألتزم بقوانين أحاول أن أجعل منها أسلوب حياة للعديد من النساء في محيطي.
نجحت وتميزت في عملي كمدربة يوغا، وذلك راجع لحبي واستمتاعي بعملي، وهذا بالفعل ما قام به مهندسنا عثمان مولين، فقد فهم أن شهادته العليا لن تحقق له السعادة التي يتمناها، ومنصبه الإداري ليس حافزاً للاستيقاظ كل صباح، بخطوته الجريئة هذه وجَّه رسالة مهمة للشباب بأن النجاح يكمن في عمل ما نحب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.