رجم "إبليس" عبادة ونسك.. وشكر "ونوس" واجب!
"ونوس" ليس مجرد مسلسل تلفزيوني، حقق نسب مشاهدة عالية، وحصيلة إعلانية وفيرة، لنجم اعتاد تصدر السباق الدرامي السنوي.
"ونوس" -في رأيي- هزة ضمير، وشهقة روح، ورجفة نفس، وسياحة فكر.
الانطلاق من سؤال درامي شائك: عصى إبليس ربه وما سجد، فكُتب عليه الخلود في النار، وأكل آدم من الشجرة، فلم يحل ذلك دون قبول توبته.. فلماذا؟! يُرجَم إبليس بالجمرات، وتتنزل على ابن آدم الرحمات!
حبكة "ونوس" مستوحاة من مسرحية "فاوست"، للكاتب الألماني الشهير جوته، قدمها عام 1808، وتعد أحد أعظم الأعمال الأدبية في التراث الإنساني، وتناقش سعي الإنسان لاكتشاف الجوهر الحقيقي للحياة.
"فاوست" ورث أموالاً، وحقق نجاحاً كبيراً، لكنه غير راضٍ عن حياته، فيُبرم عقداً مع الشيطان "مفستوفيليس"، يسلم بموجبه "فاوست" روحه للشيطان، في مقابل الحصول على المعرفة المطلقة والملذات الدنيوية كافة، ما أوقعه في كل رذيلة من قتل وسرقة وفسق ومجون.
الكاتب الرائع عبد الرحيم كمال لم ينقل "فاوست" بالمسطرة، إنما أضاف إليها حبكة مشوقة عن أسرة مصرية تدخل في صراع مباشر مع الشيطان/ ونوس.
دون مقدمات، يقدم "ونوس" نفسه (يحيى الفخراني) باعتباره "الشيطان"، دون رمزية متكلفة، أو مواربة قد لا تستوعبها شريحة من المشاهدين.
الصراع يدور حول توقيع "صك عبودية"، حيث يسعي "ونوس" للحصول على إمضاء الأب ياقوت (نبيل الحلفاوي) على عقد البيع؛ بيع روحه وجسده ومصيره للشيطان؟ يصيغها "ونوس" بوضوح (الحلقة 26): "أن تكون.. جنتك جنتي.. ونارك ناري" إذن.. هل تتوقع أنت؟
إذا استعذت بالله من الشيطان الرجيم من رهبة السؤال الصادم، فأنت على الطريق.. "ونوس" يذكرك بربك، وينبهك لطرد الوساوس! وكأنه الشيطان الذي أفلت من الأصفاد في رمضان، لا ليزين لنا الباطل، إنما ليعري الحقيقة أمامنا.. شاخصة مجسدة كاشفة.
يتصاعد الصراع بتفصيلات عديدة، وفي مقابل إصرار الأب على مقاومة "ونوس"، تقع أسرته في حبائل "ونوس" كلٌ حسب نقطة ضعفه، الكل دخل "مدينة الملاهي" التي يملكها "ونوس، أو ارتاد "كباريه حياة" وكر الملذات، فالتصابي رغبة الأم "هالة صدقي" التي فقدت زهرة شبابها في تربية أبنائها بعد هجر زوجها، ومداخل الأبناء تتنوع من حب المال، للشهوة الجنسية، ومن الدجل والشعوذة، حتى تمييع الدين في سبيل الشهرة والنجومية!
لكن: هل في كل مرة "ونوس" هو سبب ما نقترفه من شرور وآثام؟
يجيب ونوس (الحلقة 28): كل واحد عايز يلبس مصايبه لونوس.. ما لي أنا ومال بلاويكم السودا.. أنا كل اللي بعمله إنى بالطف الخوازيق وأظبطها على مقاس كل واحد وأحلّيها في عينهم إنما هم اللي بيروحوا لها برجليهم..".
بل يزيد، إن شر ابن آدم أحيانا يفاجئ ونوس نفسه، فيقول مخاطباً الابن الأكبر (الحلقة 18): تقول لمراتك إنك ها تتجوز عليها.. عادي فيه ناس بتعملها.. إنك حتى كمان تعرفها معاد الفرح.. فيه رجالة عندها الشجاعة تعمل كده.. لكن تعزمها على الفرح هي والأولاد.. يا راجل.. ده أنا نفسي مقدرش أعمل كده"!
بإبرة مدببة يوخز "ونوس" أبداناً تبلدت، وقلوباً قست، يكشف سر اعتياد الذنب، وإلف المعصية، قائلاً (الحلقة 30): أنا الفخ.. أنا المصيدة اللي بيقع فيها الغفلان.. مش بتسمع عن أم تقول لابنها يكفيك شر ساعة الغفلة.. أنا ساعة الغفلة"!
بأستاذية عملاق تمثيل محنك، يعرف "الفخراني" متى يسبغ على "ونوس" لمحات كوميدية لاذعة، ومتى يلملم ذلك الخيط قبل أن يتسلل التعاطف مع الشخصية لذهن المتلقي. في وصلة "مسكنة" يقول ونوس (الحلقة 28): يعني دلوقتي أنا لو افتكرت مصيري الأسود وحزنت.. أفضفض مع مين".. ثم يقاوم نوبة بكاء مكتومة متصاعدة، قبل أن يتحول فجأة لضحكة مجلجلة.. ساخراً "ده أنا كنت هاصدق نفسي"!.. معلم!
في (الحلقة الأخيرة) من صراع ونوس-ياقوت، يستسلم الأب، ظناً أنه يحمي أسرته بذلك من تدمير "ونوس" لهم، وبعد محاولات مستميتة منه لإفلاتهم من حبائله، يتهيأ ياقوت لبيع روحه للشيطان، ويجهز "ونوس" بالفعل عقد البيع، "إنه في اليوم المعلوم.. أتى المذكور إلينا.. بإرادته الكاملة، وروحه الخاملة، ونفسه التي أنهكتها الملذات، ليوقع بلا ضغط ولا تهديد، على العقد ذي البنود كاملة الوضوح بتسليم ما يملك من روح".
لكن قبل التوقيع، يستعين ياقوت بربه، ويرفض ابن آدم الصك الشيطاني، ويستمسك بعفو ربه، ويموت تائبا قبل الغرغرة.. ونوس يثور غاضباً: "بعد كل اللي عمله خلاص سماح كده"؟! سؤال استنكاري متجاوِز ممن كفر، بحق من هو -عمن تاب- رحم وغفر.
وفي وصلة أداء ولا أروع، يخاطب "ونوس" الله تعالى: "ليه مدلعه أوي كده.. اشمعنى أنا.. أنا غلطت غلطة واحدة، وهو الخطّاء اللي ما بيتعلمش.. أنا المتعلم، أنا الذكي، أنا الزاهي، أنا المخلوق من نار، أنا أحسن منه، أنا اللي عبدتك قبله أنا الأول".. أنا المتغاظ!
إنه الكبر المورث للكفر، في مقابل: أفرارا مني يا آدم؟ بل حياء منك يا رب" وبضدها تتميز الأشياء.. ونوس يهزنا بقسوة.. يرجم شهواتنا وضعفنا وغفلتنا.. ولو تفكر كل منا في فرحة "ونوس" بمعصيته، أو غيظه من توبته، لتغيرت أحوالنا كثيرا.
ونوس.. شيطان يأخذك إلى الجنة!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.