في طفولتنا، من منا لم يحلم يوماً بامتلاك الأتاري، من منا لم يرهق والده كل يوم وكل ليلة بالطلب المستمر لجهاز الألعاب ذاك، حالمين بأن نجلس أمامه ونوصله بشاشة التلفاز، ونمسك بأذرعته ونلعب كل يوم وكل لحظة ألعابه البسيطة والعظيمة في ذلك الوقت.
حتى إن وُلدت بعد حقبة جهاز الأتاري، فبالتأكيد أدركت حقبة جهاز البلاي ستيشن 1، و ما يليه من أجهزة، وبالتأكيد في كل مرة كنت تجلس فيها إلى أحد تلك الأجهزة، كنت تلعب اللعبة الأشهر، والتي كانت معنا منذ سنين طفولتنا الأولى وهي سوبر ماريو.
سوبر ماريو، هو أحد شخصيات ألعاب الفيديو وأشهرها، أصدرته شركة "نينتندو" للمرة الأولى في لعبة "Donkey Kong" عام 1981، ومنذ ذلك الوقت والشخصية تمتلك مكاناً خاصاً في عقول وقلوب أجيال متتالية من شعوب العالم.
لذلك، فإن هذا يثير فضولنا أكثر حول النجاح التاريخي الذي حققه فيلم سوبر ماريو الجديد "Super Mario Bros"، والذي صدر في يوم 5 من شهر أبريل 2023؛ ليحصد 500 مليون دولار حتى الآن، ويكون أضخم فيلم قائم على لعبة فيديو في التاريخ، وأكثر فيلم من هذا النوع تحقيقاً للأرباح.
عن فيلم سوبر ماريو
يسرد الفيلم القصة الاعتيادية للأخوين ماريو، والمقتبسة من ألعاب الفيديو بشكل مباشر، فيحكي عن الأخوين "ماريو ولويجي" اللذين يمارسان السباكة، ولكن لويجي يتم خطفه بواسطة وحش شرير نافث للنار، يُسمى "باوسر"، فينطلق "ماريو"، والأميرة "بيتش" أميرة مملكة الفطر الخيالية في مغامرة ساحرة لإنقاذ "لويجي"، مع محاولة إيقاف "باوسر" الشرير من السيطرة على العالم.
بالطبع بالقراءة الأولى للمختصر السريع لقصة فيلم سوير ماريو، سيتبين لك كم هي قصة طفولية، قد تبدو خرقاء بعض الشيء، ولكن بنظرة أخرى إليها، وإلى نجاح الفيلم، تجد أن القصة ليست موجهة للأطفال، بل للأجيال البالغين الذين ذهبوا في جحافل إلى صالات السينما ليشاهدوا الفيلم، ويجعلوه أحد أنجح أفلام العام، وأنجح فيلم مقتبس من لعبة فيديو في التاريخ.
بالطبع بنظرة تحليلية لحالة فيلم سوبر ماريو ونجاحه، وكذلك نوعية الجمهور الموجّه له، نجد أن الفيلم يداعب مشاعر الحنين إلى الماضي أو النوستالجيا كما يسمونها، وهذه المشاعر، والتي تتخلل بين الجموع البشرية كالوباء، هي أحد أهداف السينما مؤخراً، لكونها عاملاً أساسياً لنجاح أي فيلم.
فتجد شبكة ديزني، على سبيل المثال، تقوم بإعادة إنتاج أحد أفلامها القديمة والناجحة كل عام، وتجد شركة "Warner Bros"، كذلك تعلن مؤخراً عن إعادة إنتاج درامية لسلسلة روايات "هاري بوتر"، والتي تمتلك مساحة مهولة عالمية من المعجبين ومن مختلف الأعمار.
ننتقل من فيلم سوبر ماريو لبعض الأسئلة المنطقية: ما هي النوستالجيا؟ وكيف تعمل في إطار نفسي؟ ولماذا تحاول شركات الإنتاج العالمية استغلالها بشكل واضح؟ فلنجب عن كل سؤال على حدة.
ما هي النوستالجيا؟
في ورقتهم البحثية الصادرة عام 2012، وصف الباحثون مفهوم النوستالجيا بأنه مجموعة من المشاعر المعقدة، والتي يتم إطلاقها داخل عقل الإنسان حين يقابل مؤثراً خارجياً مألوفاً، كرائحة على سبيل المثال، أو صوت معين أو حتى صورة.
فحين يقابل الإنسان هذا المؤثر، يتم تحفيز ذكرياته ويبدأ بالتفكير في الماضي، حيث يمنحه هذا التواصل بين ماضيه وحاضره شعوراً نفسياً أفضل، ويضيف إليه معنى لحظياً لوجوده، حيث يدرك تجاربه المتراكمة، وكذلك بعض ذكرياته المنسية، فيتملكه شعور بالحنين والانتماء والمعنى والهدف، مما يؤثر عليه بشكل إيجابي.
لقد أضاف الباحثون أن الإنسان حين يمر بمشاعر النوستالجيا، يسيطر عليه الانتماء والانتساب إلى شيء ما، بالتالي تزيد قدراته الاجتماعية، ويغرق في حالة تواصل مستمرة بين ماضيه وحاضره، وهذا التواصل يمنحه فكرة أفضل عن معنى وجوده ومعنى حياته، وبالتالي يكتسب قدراً كبيراً من تقدير الذات، ويبلور مجموعة من المشاعر الإيجابية، التي تمنحه شعوراً عقلياً ونفسياً أفضل.
مع ذلك، لا يعني هذا بالضرورة أن كثرة التعرض لحالة النوستالجيا ستكون مفيدة للإنسان، ولكنها رغم هذا تعتبر مصدراً شبه دائم للمشاعر الإيجابية، والتي تدفع الإنسان للتعايش مع واقعه المؤلم بشكل أفضل، وهذه إحدى العوامل المهمة التي تجعل جمهور المشاهدين مهتماً بشكل خاص بالأعمال التي تمنحه هذه التجربة وهذا الشعور.
فيلم سوبر ماريو .. كيف تعمل النوستالجيا؟
يقارن معظم البشر ماضيهم بحاضرهم، فيقارن الشاب بين فترتي شبابه وطفولته، ويقارن البالغ بين فترتي بلوغه وشبابه، ويقارن الهرم بين فترتي هرمه وبلوغه، وعلى طول هذا الخط، يرجح الإنسان معظم الوقت كفة ماضيه، حيث يجعل الماضي مثلاً أعلى، والحاضر يحاول بائساً اللحاق بهذا المثل.
ووسط تجربة النوستالجيا، حين يقرر الإنسان إعادة زيارة ماضيه، تمنحه هذه الزيارة رؤية أفضل لحاضره، وتذكره بأنه ليس وحيداً في تجربته الحياتية واليومية، وأن ماضيه هذا يشاركه فيه العديد من البشر الآخرين، وبالتالي حاضره أيضاً يتضمن العديد من البشر، وهذا الشعور الاجتماعي يترتب عليه كما قلت سابقاً شعور بالانتماء، فيتملك الإنسان انطباع ولو كان مؤقتاً بأنه محبوب من وسطه المحيط.
هذه التركيبة المعقدة من المشاعر، تجعل الإنسان في حالة عقلية أفضل، بالتالي يمكن اعتبارها وسيلة دفاعية للإنسان تمنحه الدفء وسط فترات البرودة، وتمنحه الطمأنينة وسط فترات القلق، فهي في النهاية تجعل الإنسان أقل قلقاً من الموت، وذلك لأن تجربة حياته تكون ذات معنى حقيقي له.
بالطبع، لا يمكن إنكار أن النوستالجيا والحنين إلى الماضي يمنحان بعض المشاعر السلبية كمشاعر الخسارة، والتي تحفز بدورها مشاعر الندم، ولكن بشكل عام يجعل هذا الحنين الإنسان يمر بتجربة عقلية ونفسية أفضل معظم الوقت، ولهذا أصبحت المعادلة واضحة بالنسبة لشركات الإنتاج العالمية، والتي كان نتاجها الأخير فيلم سوبر ماريو.
لماذا تحاول شركات الإنتاج العالمية استغلال النوستالجيا أو الحنين إلى الماضي؟
بالنسبة للنظم الرأسمالية، والتي تعيش البشرية في ظلها منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، يجب تقديم ما يدمنه الجمهور؛ حتى نحصد القدر الأكبر من الأرباح.
أسفل مظلة هذه الفلسفة البراغماتية، تعمل شركات الإنتاج مع المشاعر الإنسانية من منطلق ماديّ بحت، نعم فيلم سوبر ماريو لطيف ورائع يمنحنا شعوراً أفضل بالتأكيد، ولكن تحويل هذه المشاعر إلى أنماط استغلالية، يتعرّض لها الجمهور بشكل دوري، هو بالتأكيد نوع من التحفيز لحالة إدمان عقلية لدى الجمهور.
مع مرور الوقت، وكذلك وسط تأزم الوضع الاقتصادي والاجتماعي العالمي بشكل أكثر فأكثر، ستحول شركات الإنتاج النوستالجيا إلى حالة هروب من الواقع، أو قد قامت بتحويلها بالفعل، فأعمال "ديزني" الأخيرة، على سبيل المثال، رغم ضعفها الواضح لا تزال تحصد جحافل من الجمهور الذي لا يأبه لجودة ما يشاهد، وكل ما يهتم له هو شعور النوستالجيا الذي يمنحه بعض الراحة.
في النهاية رغم جودة ما تقدمه لنا بعض شركات الإنتاج من أعمال تداعب حنيننا إلى الماضي، لابد أن نأخذ وقفة من محاولة استغلال هذا الحنين بشكل مستمر، حتى لا يتحول لضحية أخرى من ضحايا المال، ولا نتحول بدورنا إلى جمهور مدمن لهذا الحنين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.