تعتبر السينما مرآة تعكس واقع العالم الذي نعيشه وتنقل الأحداث التي تؤثر في الإنسان وتؤثر في نظرته إلى الحياة، ولذلك ينبغي قراءة الأعمال بحيث نستطيع استنباط العبرة وأخذ الدروس منها؛ لما في ذلك من أهمية تكمن في صياغة العقل البشري، وبالطبع قد نلحظ تفاوت الأعمال في مدى تعمقها في المسائل الحياتية وإبرازها للظواهر السلبية للمجتمعات، خاصة أن مضمون السينما الحديثة تأثر من خلال تغليب الربح المادي على المعرفة والرسالة الهادفة، ونجد أن قليلاً من الأعمال شذّت عن هذه القاعدة؛ فبرعت في إيصال الرسالة وتحقيق الربح المطلوب ومنها فيلم Desierto.
يعتبر فيلم Desierto _أي الصحراء_ أحد أكثر الأعمال التي لامست النفس البشرية المتوحشة؛ فالعمل الدرامي صور حال الهارب من واقعه البائس أملاً في الحصول على واقع أفضل، عالقاً في الخلاء يظن أن وهج الحر والمسافة الطويلة هي ما يفصله عن الوصول لغايته، لكن وبمجرد أن تطأ قدماه الصحراء سيعلم أن الصحراء هي الأم التي ستوصله إلى حلمه، وأن الوحش الذي يكمن خلف الحدود هي العنصرية التي أوجدها البشر، في الحقيقة يمضي الإنسان الهارب من بلده وقته خائفاً من الطبيعة ولكن سرعان ما سيكتشف أنها أفضل صديق له في غربته، وأن عدوه الأكبر هو الإنسان الذي يرفض الانسجام الذي كرسته وأوجدته الطبيعة بمشيئة الخالق.
تدور القصة حول مجموعة من الشبان يحاولون العبور ليصلوا إلى أمريكا أملاً في إيجاد حياة تكون مغايرة عمّا هو عليه الحال في المكسيك التي أرهقهم شظف العيش فيها، أرادوا تحقيق الخلاص المادي والمعنوي، تلخّص المشهد حول الهرب من الموت إلى الحياة، ومن سلب الإرادة إلى الحرية، ولكن، خلف الحدود هناك عقلية الرجل الأبيض التي ترسّخ فيها معاني الموت وأرادت بدون حق أن تسلب إرادة كل من يحاول القدوم إلى أمريكا، علماً أن أجداده قدموا مهاجرين إلى هنا وفي هذا بحد ذاته إدانة لكل مظاهر العنصرية والعنف تجاه المهاجرين، فالناس فُطروا على العيش والبحث عن الحياة ومعانيها والتعارف بحكم اختلافهم؛ فلولا الاختلاف لما وجدت الرغبة في التعرف على الآخر والبحث عمّا عنده.
سوف تلاحظ أن الأسماء غابت الفيلم؛ لأن العنصرية ببساطة ليس لها اسم أي أنها لا تعترف بالجغرافيا أو الطبيعة وليس لها أصل أو منبع، ولكنها حالة غريبة تنشأ لدى الشخص وتتحور لتصبح على شكل عنف ورفض ثم تصل إلى شعور بالرقي الكاذب ودونية كل من هو حولهم، وبهذا المنطق وجدت العنصرية الأوروبية وعلى خطاها ظهرت العنصرية الأمريكية، وقد تتغلف العنصرية بطابع ديني ناجم عن الأصولية التي تبيح لطائفة إقصاء كل من لا يلتزم بقواعدها، ولقد مثلت العنصرية الدينية أسوأ مظاهر العنصرية لأنها الأوسع انتشاراً وتقبلاً لدى الأفراد.
لقد صرخ "جفري مورغان" الذي أبدع في أداء دوره "مرحباً بكم في أرض الحرية"، وكأنه أراد أن ينفي هذه الصفة عن بلاد العم سام وفي ذلك إدانة لتاريخ من الاستعمار الأوروبي وحركات العنصرية والأصولية التي تدعي أن لديها الحقيقة الكاملة ونهاية طريقها الحرية المنشودة للجميع، ولكن الواقع مخالف لذلك؛ لأن هذه الدول رسّخت مبدأ التمييز والعنصرية تجاه الشعوب والدول وأضحت الإنسانية قرباناً على مذبح المستعمر الأبيض الذي يبدو أن يحن إلى ارث أجداده المستعمرين، ومن المؤسف أن أكثر اللقطات حزناً في الفيلم هي بكاء "جفري" ليس على ضحاياه ولكن على كلبه "تراكر" الذي كان شريكاً لصاحبه في الجريمة، وكأن المشهد يحكي عن نفسه، فطالما احتفى الغرب بجيوشهم الذين ذهبوا لغزو البلاد وجعلوها خراباً بعد عمران، وطمسوا معاني الإنسانية وأصبحت القبور مزارات تحكي إلى اليوم قصص هذا الحق غير المكتسب للرجل الأبيض ليقتل كل من يخالفه بالعرق أو الدين وحتى الرأي ويبيح له أخذ أراض الشعوب المقهورة وتنصيب نفسه سيداً عليها مستقوياً بترسانته العسكرية بدعوى نقل التحضر إليها، والحقيقة أنه لا ينقل إلا ثروات تلك البلاد ليضمن تفوقه التقني والعلمي وتزدهر حضارته وتستفيد مصانع كبار الرأسماليين.
ينتهي الفيلم بمشهد خلّاب للأفق قائلاً رغم صمته إن مبادئ الإنسان سوف تنتصر، وفي غمرة الأفق يمضي المهاجر مكملاً طريقه نحو فجر جديد وبقي القاتل برمزيته للعنصرية ممدداً على رمال الصحراء، فالعنصرية وجدت من اللاشيء وستعود إلى اللاشيء، والعنصرية وغيرها من المفاهيم المغلوطة التي يشهدها العالم خاصة في ظل صعود تيارات اليمين المتطرف وما ينتج عن ذلك من تزايد تأييد الحركات الأصولية الدينية كرد فعل على العنصرية سوف تؤدي بنا إلى مزيد من الاختلاف والاستقطاب نحو الأطراف والجميع خاسر إذا ما سعينا نحو الحوار وقبول اختلافنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.