الخيال هو تلك المساحة الآمنة التي تسمح دائماً بخلق عالم فريد ومتكامل ننسجه بعيداً عن حسابات الواقع ومحدوديته. وخلال عام 1955، صنع الأديب البريطاني جون رونالد روبل توليكن عبر روايته، التي تحولت فيما بعد إلى سلسلة أفلام The lord of the Rings عالماً خيالياً في منطقة سماها الأرض الوسطى، وطعَّمه بالأساطير الاسكندنافية والفنلندية واللغات القديمة وأسكن فيه الجان والأقزام والسحرة والموتى والأرواح الشريرة.
قرر المخرج النيوزيلندي بيتر جاسكون في عام 2001، أن ينقل لنا هذا العالم السحري عبر الشاشات، ويجعلنا نجلس مشدوهين طيلة 9 ساعات كاملة (هي مدة الأجزاء الثلاثة) ونحن نخوض رحلة شاقة وطويلة ومحفوفة بالمخاطر مع أبطال هذا العمل ضد الشر والاحتمالات المستحيلة، فكيف استطاع جاسكون فعل ذلك؟
عالَم مَلحمي كامل يخرج من الرواية للسينما بإنتاج ضخم
صُوِّرت الأجزاء الثلاثة من فيلم The Lord of the rings في نيوزيلندا طيلة 18 شهراً متواصلة، وصُوِّرت الثلاثية في 150 موقعاً مختلفاً وعلى أكثر من 1800 كيلومتر.
كما صنعت شركة Weta Workshop للتأثير السينمائي 48.000 درع و500 قوس و10.000 سهم، فقط من أجل الفيلم.
تطلَّب إنجاز هذا العمل مجهوداً جسدياً هائلاً، وذلك بسبب المعارك التي يخوضها الأبطال من أجل القضاء على الخاتم في فوهة جبل الموت.
لهذا فقد خضع جميع فريق العمل لتدريبٍ مكثف في فنون القتال باستخدام السيف وطرق إطلاق السهام.
وتدرَّب الممثلون على لغة الإلف ELF المستمدة من لغة السيلتيك التي كان يتحدثها الجان، إذ كان تولكين أستاذاً في الأدب الإنجليزي القديم، وهو الأمر الذي انعكس في كتاباته الأدبية، لذا فقد أولى تأثيرات اللغة القديمة أهمية كبيرة في روايته تلك.
وبالإضافة إلى التدريبات القتالية، وجب على كل ممثل في الثلاثية أن يكون في قمة قوته الجسمانية، وذلك من أجل مشاهد التصوير الصعبة التي تقتضيها الرحلة نحو جبل الموت.
إذ أصبح لزاماً على أبطال العمل تجاوز مجاري الأنهار وتسلُّق الجبال، كما كان يجب الحفاظ على قوتهم من أجل الانتهاء من تصوير العمل، الذي دامَ 18 شهراً.
درَّب المبارز الأولمبي البريطاني الشهير بوب أندرسون أبطال العمل على المبارزة بالسيف، إذ قرأ أندرسون، الخبير في أسلحة العصور الوسطى، رواية توليكن؛ ومن ثم طوَّر أساليب القتال بناء على أوصاف توليكن لكل ثقافة، كما استعان جاكسون بمنسق الخيول ستيف أولد، إذ ضم مشهدُ معركة هيلمز ديب 250 حصاناً في حلبة القتال.
المؤثرات البصرية في سلسلة أفلام The Lord of The Rings
اقتضى مسار الحكاية أن يتسلم فرودو باغنز، القزم الصغير من الهوبيت -والذي جسد دوره ببراعةٍ إليجاه وود- خاتم الشر ووجب عليه أن يدمِّر الخاتم بنفسه، ولكى يصوِّر جاكسون أقزام الهوبيت في الفيلم، استعان بالمنظور القسري، وهو تقنية فنية تجعل الأشخاص يبدون أصغر أو أكبر من حجمهم الحقيقي.
كما أظهر جاكسون غاندالف الساحر المساعد لفرودو، والذي أدى دوره إيان ماكيلين، بهيئة أكبر من هيئته الطبيعية، لإضفاء جو من السحر على مسار الأحداث.
استخدم جاكسون أيضاً العديد من المؤثرات البصرية العملية والرقمية؛ مثل الأطراف الاصطناعية والمخلوقات التي صُممت من خلال برامج الكمبيوتر مثل شخصية غولوم التي اقتضى تصميمها 1000 رسمة و100 نموذج توضيحي.
كذلك وحوش الأوراك والأشجار المتحرّكة، ويعد الفيلم واحداً من الأفلام التاريخية القليلة التي استطاعت أن تفي بمعايير الملحمة، ومناظرها البانورامية، وتسلسل المغامرات المطولة.
طيلة مدة عرض الفيلم لم ينفرط عقد تجسيد الأحداث من جاكسون، ولم يغفل عن فكرة الفيلم الأساسية التي تمجِّد الإنسان ولكنها تقدّر ضعفه في الوقت نفسه إزاء السلطة، فالشخصية التي تصر على إكمال دربها مهما كانت العقبات تستحق الانتصار، ولا تقتصر تلك العقبات على الشر الخارجي، إذ من الممكن أن يعتمل ذلك الشر داخل صدورنا.
عبقرية الألوان والإضاءة
يتلاعب صانعو الأفلام بعواطفنا عن طريق الإضاءة ومزج الألوان في العمل، وخلال الفيلم استُخدم التباين القوي في الإضاءة ليعكس الصراع بين الخير والشر.
فعلى سبيل المثال وخلال نصف الساعة الأولى من الفيلم، كانت الأحداث تدور في مدينة شاير التي يقطنها الهوبيت، وهي مدينة ترمز إلى الخير والسلام، ولهذا كانت الإضاءة قوية والألوان خضراء وزاهية.
في الوقت الذي بدأت فيه رحلة فرودو، اختفى اللون الأخضر وظهر الأصفر اللامع الذي يرمز إلى المغامرة، ومن بعدها تداخل الأحمر والأسود؛ إيذاناً بسيطرة الشر على العالم.
وفي بعض الأوقات، عمد جاكسون إلى مزج نوعين من الإضاءة معاً في اللقطة نفسها؛ إشارة إلى تعارض العوالم أو انتقالها من حالة إلى أخرى، وحدث ذلك عند خلاف فرودو مع سام على سطح الجبل، وحينما قرر فرودو الاحتفاظ بالخاتم عوضاً عن القضاء عليه.
الألوان لم تقتصر على خلفيات العمل ولكنها كانت تحيط بأبطاله أيضاً؛ فالأبيض الناصع رافق الساحر غاندالف في أغلب الأحداث؛ دلالة على الحكمة والخير المطلق الذي لا يشوبه الشر أبداً، والأسود الذي كان يرتديه أراغون في المعارك أخبرنا عن شجاعته، والإضاءة الفائقة في حالة الجان ذكَّرتنا بأن هذا العالم ينتمي إلى الخير، هيئة غولوم عكست الازدواجية المأساوية التي يعانيها وصراعه الدائم بين الخير والشر.
الموسيقى تنسج علاقات متينة بين النص والصورة..
في العمل السينمائي يجب أن تكون ملماً بأحداث قصة الفيلم من جميع الجوانب، حتى تتفاعل مع أبطال العمل، ولكن لا تحزن إذا لم تستطع أن تفهم جيداً مسار الأحداث، فما زال بإمكانك التفاعل مع العمل، وذلك من خلال الموسيقى التصويرية وأغاني الفيلم، إذ تنجح الموسيقى دائماً في أن تجعلنا نرى ما لا يُعرض على الشاشة، مثل مشاعر الأبطال الداخلية والصراع الذي يعتمل في صدورهم.
وقد ألَّف الفنان الكندي هوارد شور الموسيقى التصويرية الخاصة بهذا العمل، لتمثل واحدة من أعظم الإنجازات في تاريخ الموسيقى السينمائية. ومن أجل صنع موسيقاه، استعان شور بعدة فرق موسيقية مختلفة وعزف منفرد، وحرص شور في صنع موسيقاه على التوافق مع الثقافات التي يعرضها الفيلم.
الأغاني أدت دوراً هاماً في التأثير على مسار الأحداث؛ فالأغنية التي غناها القزم بيبين في بلاط الأمير دينيثور القائم بأعمال المدينة البيضاء والتي كان موضوعها الحنين إلى الوطن، أثّرت بشكل كبير، إذ كان العالم على مشارف الحرب الفاصلة بين قوى الخير والشر.
وقد خدمت الأغاني قصة الفيلم إلى حدٍّ بعيد؛ فمن خلالها أصبحنا على دراية بأن النصر لا يكون حليف القوى العظمى فقط، ولكنه يمكن أن يأتي من الأعمال الصغيرة والأناس الصغار تلك التي تحافظ على النور في قلوبها وسط الظلام الحالك ولديها الكثير من اللطف والمحبة، وقد برز ذلك من خلال الأقزام الذين كانت شخصياتهم متماسكة مليئة بالحب والوفاء والبراءة.
الثلاثية التي حصدت 17 جائزة أوسكار
عندما كان بيتر جاسكون في الثامنة من عمره أهداه والداه كاميرا Super-8، لتشجيع شغفه بالتصوير. وبالفعل، بدأ جاكسون من يومها النظر في عدسات الكاميرا والتقاط الصور السينمائية، ولم يتوقَّف حتى الآن.
في 29 فبراير/شباط 2004، وقف بيتر جاكسون على المنصة بحفل توزيع جوائز الأوسكار، شاكراً والديه على هديتهما الغالية، وحينها تسلّم بيتر جاسكون جائزة الأوسكار فئة أفضل فيلم، لكنّ تلك الجائزة لم تكن الوحيدة التي حصدها الفيلم.
إذ نال الجزء الثالث من الثلاثية 11 جائزة أوسكار: فئة أفضل فيلم، وأفضل مخرج، وأفضل موسيقى تصويرية وحصد الجائزة هوارد شور، وأفضل أغنية أصلية ونال الجائزة كل من هوارد شور وفران والش وآني لينوكس.
ونال الفيلم جائزة أفضل كتابة سيناريو مقتبس ونال الجائزة بيتر جاكسون وفران والش، وجائزة أفضل تصميم أزياء وفاز بالجائزة ريتشارد تايلور ونجيلا ديكسون، وكذلك جائزة أفضل تأثيرات بصرية وأفضل خلط أصوات وأفضل مونتاج، وأفضل تصميم إنتاج وأفضل مكياج وتصفيف شعر.
كما فاز الجزء الثاني من الثلاثية بجائزة الأوسكار لأفضل تأثيرات بصرية ونال الجائزة جو ليتيري وجيم ريجيل، وأفضل مونتاج صوتي وفاز بالجائزة إيثان فان دير رين ومايك هوكينز.
أما الجزء الأول من العمل، فقد حصد 4 جوائز أوسكار: جائزة الأوسكار لأفضل موسيقى تصويرية وفاز بها هوارد شور، وأفضل تصوير سينمائي وحصدها أندور لينزي، وأفضل تأثيرات بصرية وفاز بها ريتشارد تايلور وجيم يجيل وراندال وليام كوك. كما فاز الفيلم بجائزة الأوسكار لأفضل مكياج وتصفيف شعر ونال الجائزة ريتشارد تايلور وبيتر أوين.