يلوح في الأفق منذ سنوات تنافس شديد على الوصول للمريخ، ويحذر بعض المراقبين من أن هذا التنافس قد يحتوي على مخاطرة كبيرة قد تتحوّل لـ "ديكتاتورية فضائية"، فخلال الشهر الماضي فقط أطلقت الصين مسبار (Tianwen-1) الذي يعد المحاولة الأولى لهبوط الصين على المريخ، كما أطلقت الإمارات -من خلال اليابان- مسبار الأمل، كما اعتزمت وكالة ناسا أيضاً إرسال بعثةٍ من خلال آلة بحجم سيارة تسير على 6 عجلات، بلغت قيمتها 2.7 مليار دولار.
وأعلنت ناسا أن مهمة الآلة تتمثل في الطواف فوق الصخور والفوهات لاكتشاف ما يُعتقد أنها كانت دلتا وبحيرة عميقة على الكوكب كانت موجودة منذ مليارات السنين. بحثاً عن أي مؤشرات تدلل على وجود حياة على المريخ قبل آلاف السنين.
وفي خضمّ هذا التنافس الضخم، نتناول في هذا التقرير أول برنامج سوفييتي لرحلات الفضاء المأهولة، التي بدأت عام 1960، يطلق على هذا البرنامج "فوستوك" وقد تمكّن هذا البرنامج من إيصال أوّل رجل إلى الفضاء وأوّل امرأة إلى الفضاء، وكذلك أوّل رحلة مشتركة لمركبتين مختلفتين مأهولتين إلى الفضاء سويّةً.
استمر البرنامج منذ عام 1960 وإلى عام 1963، أثناء الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي، والتي تشعّبت لتصل إلى سباق تسلُّح من ناحية، وإلى سباق علمي من ناحيةٍ أخرى. فأطلق هذا المشروع ضمن تنافس علمي بين قطبي العالم (الاتحاد السوفييتي وأمريكا).
وللحقيقة، فقد كان الاتحاد السوفيتيي متفوقاً بقوة على أمريكا في تلك الخطوات الأولى للوصول للفضاء، وفق ما ذكره موقع Space الأمريكي.
بداية برنامج فوستوك
لدى روسيا -تاريخياً- مسيرةٌ طويلة ومعتبرة في رحلات الفضاء البشرية، بداية من الإنجاز الرائد للمهندس وعالم الرياضيات كونستانتين تسيولكوفسكي، الذي توصّل لمعادلة الصواريخ لأول مرة عام 1903، التي تشرح حركة المركبات الفضائية. وقد ساعد ذلك في منح الاتحاد السوفييتي لاحقاً سبقاً في بداية عصر الفضاء.
وبعد إطلاق أول قمر صناعي عام 1957 والمسمّى سبوتنيك، بدأ الاتحاد السوفييتي استعداداته للرحلات المأهولة، التي تضمنت تطوير مركبة فوستوك الفضائية التي ستحمل الناس إلى الفضاء، وفقاً لموقع Astronautix.com الذي يبحث في تاريخ الفضاء.
وُضِعت هذه المركبات الفضائية فوق صاروخ فوستوك، وهو عبارة عن مركبة إطلاق بطول 30 متراً، أي أكبر قليلاً من المستخدَم في برنامج Mercury التابع لوكالة ناسا.
وبين عامي 1960 و61، أطلق السوفييت العديد من كبسولات فوستوك التجريبية التي تحمل كلاباً، وقد قُتل بعضها خلال مهماتها ونجا البعض الآخر وهبط بأمانٍ على الأرض، وفقاً لموقع Russianspaceweb.com.
يوري غاغارين.. أول من يصعد إلى الفضاء
كان يوم 12 أبريل/نيسان عام 1961 إنجازاً تاريخياً عندما أصبح رائد الفضاء يوري غاغارين أول إنسان يحلق في الفضاء ويدور حول الأرض في رحلة فوستوك 1. وقد استغرقت رحلة غاغارين 108 دقائق، حيث دار مرة واحدة حول كوكب الأرض قبل أن يعود إلى الغلاف الجوي.
ونظراً لأن المهندسين لم يكونوا واثقين من الكيفية التي سيؤثِّر بها انعدام الوزن في الفضاء على غاغارين، لم تكن كبسولة فوستوك الكروية التي تتسع لشخصٍ واحد تضم سوى القليل من أجهزة القيادة، وكان المخطِّطون على الأرض ينفذون معظم التحركات وليس غاغارين نفسه.
وفي حالة الطوارئ، كان غاغارين يُمنح شفرة تخطِّي تسمح له بالتحكم اليدوي.
كان قُطر مقصورة فوستوك 1 المحدودة يبلغ حوالي 2.5 متراً، وكانت مصنوعة من سبائك الألومنيوم.
كانت المقصورة تضمُّ نافذتين: واحدة فوق رأس رائد الفضاء الروسي في فَتحَة الدخول والأخرى عند قدميه.
خلال تلك الرحلة الأولى، كانت الكبسولة تضم مؤن تكفي لمدة 10 أيام في حال فشل المحركات واضطرار غاغارين إلى الانتظار حتى يحدث التدهور المداري بشكل طبيعي.
لم تكن المركبة الفضائية فوستوك مزوّدة بقدرات مناورة حقيقية ولم تستطع الهبوط بمفردها. فبعد عودة غاغارين إلى المجال الجوي، طار من المركبة الفضائية حوالي 4 أميال (7 كيلومترات)، واستخدم المظلة للهبوط على الأرض في حقل بطاطس ليثير دهشة مزارعة وحفيدتها، وفقاً لموقع Russianspaceweb.com.
أصبح غاغارين بطلاً وطنياً ودولياً، فقد هتف له مئات الآلاف خلال استعراضٍ احتفاليّ في الساحة الحمراء في موسكو. ويُحتفل بالذكرى السنوية لرحلته في "يوم رواد الفضاء" في روسيا.
الرحلة الثانية: بعد 4 أشهر فقط من الأولى
في 6 أغسطس/آب عام 1961، أي بعد 4 أشهر فقط من رحلة غاغارين، أطلق الاتحاد السوفييتي رحلة فوستوك 2، التي حملت رائد الفضاء جيرمان تيتوف، الذي أصبح رابع شخص يصعد إلى الفضاء بعد رائدي الفضاء الأمريكيين آلان شيبرد وفيرجيل جريسوم اللذين ذهبا في رحلتين دون مداريتين ضمن برنامج ميركوري التابع لوكالة ناسا. أصبح تيتوف أول شخص يظلّ في الفضاء لأكثر من يوم، ويدور حول الأرض 17.5 مرة على مدار 25 ساعة، وفقاً للموقع النيوزيلندي Daryl's Space Collection.
كان تيتوف طياراً احتياطياً لغاغارين في رحلة فوستوك 1، وكانت رحلة فوستوك 2 رحلته الفضائية الوحيدة. فبعد رحلته تلك، أُوقف لأسبابٍ طبية فقد كان أول شخص يعاني من دوار الفضاء أو متلازمة التكيف الفضائي، حيث أصيب بغثيان شديد أفقده الرغبة في تناول الطعام أثناء رحلته.
مركبتان فضائيتان تخرجان للفضاء معاً!
كانت فوستوك 3 و4 رحلة مزدوجة وجريئة جداً، فقد أُطلقت فيها مركبتان فضائيتان منفصلتان في يومين متتاليين، في 11 و12 أغسطس/آب عام 1962. وركب رائد الفضاء أندريان نيكولاييف فوستوك 3 وبافيل بوبوفيتش فوستوك 4.
كانت الرحلتان الفضائيتان المتزامنتان رداً على تمكّن أمريكا من إرسال أحد رواد الفضاء حول مدار الأرض، واسمه جون غلين، في وقت سابق من ذلك العام. وقرر السوفييت إظهار تفوقهم بإرسال "تشكيل طيران" في الفضاء.
أُطلقت مركبة فوستوك 3 أولاً وكانت في مكانها الصحيح عندما وصلت فوستوك 4 إلى المدار، حيث أصبحتا على بعد 3 أميال (5 كيلومترات) من بعضهما بعد إطلاق فوستوك 4.
وأجرى الطياران اتصالاً لاسلكياً مع بعضهما وأفاد بوبوفيتش أنه تمكن من رؤية سفينة نيكولاييف. ولكن في غياب قدرات المناورة، سرعان ما انفصلت الاثنتان عن بعضهما، وفقاً لموقع Astronautix.com.
وواجهت فوستوك 4 مشكلات في نظام "دعم الحياة"، فقد انخفضت درجة الحرارة الداخلية للكبسولة إلى 50 درجة فهرنهايت (10 درجات مئوية). وأراد الطيار، بوبوفيتش، إتمام مهمته لكنهم أبلغوه بأن عليه الاتصال بالقاعدة الأرضية والقول إنه "شاهد عواصف رعدية" في حال شعوره بدوار الفضاء مثل تيتوف.
وفي الواقع، شاهد بوبوفيتش عواصف رعدية فوق خليج المكسيك وأبلغ القاعدة عنها، لكنها فهمت رسالته على أنها الإشارة السرية. ولذا أعادوه في وقتٍ مبكر، وهبط بعد فوستوك 3 ببضع دقائق. وظلت كلتاهما في الفضاء لبضعة أيام.
آخر رحلات البرنامج.. مهمّة مزدوجة
كانت رحلتي فوستوك الأخيرتين مهمة مزدوجة أخرى. إذ أُطلقت فوستوك 5 في 14 يونيو/حزيران عام 1963 و فوستوك 6 في 16 يونيو/حزيران عام 1963، وكانتا أيضاً على بعد 3 أميال (5 كم) من بعضهما واتصلتا ببعضهما لاسلكياً، وفقاً لموقع Astronautix.com.
حملت فوستوك 5 رائد الفضاء فاليري بيكوفسكي، الذي ما تزال رحلته التي استغرقت خمسة أيام أطول رحلة فضائية فردية في مدار الأرض حتى يومنا هذا، وفقاً لموقع Daryl's Space Collection.
وحققت فوستوك 6 سابقةً أكثر روعة، إذ حملت أوّل امرأة إلى الفضاء، وهي فالنتينا تريشكوفا. وكان صاحب فكرة رائدة الفضاء سيرجي كوروليف، المهندس الرئيسي لبرنامج الفضاء السوفييتي.
لكنّ كوروليف لم يكن راضياً عن أداء فالنتينا ولم يسمح لها بالتحكم اليدوي في المركبة، كما كان مخططاً. واستغرق الأمر 19 عاماً أخرى قبل أن تصعد روسيةٌ أخرى، سفيتلانا سافيتسكايا، إلى الفضاء وأكثر من عقدين من الزمن قبل أن ترسل ناسا رائدة الفضاء، سالي رايد.
ووفقاً لموقع Astronautix.com، كان العديد من رحلات فوستوك الأخرى في مراحل التخطيط، منها رحلة مزدوجة تضم امرأتين ورحلات فردية أطول بكثير. لكنّها ألغيت بعد ظهور برنامج فوسخود السوفييتي، الذي نفذ رحلات تضم عدة أشخاص، وبرنامج سويوز، الذي ما يزال اسمه يطلق على رحلات الفضاء الروسية المأهولة.
وكما كان السبق للاتحاد السوفييتي في الصعود للفضاء، كان له السبق في توقُّف هذه المشاريع أو تأجيلها لفترة من الزمن بعدما دخل الاتحاد السوفييتي في مرحلة التدهور والانهيار.
اليوم أصبحت وكالة ناسا الأمريكية هي الجهة العالمية الأكبر، التي تمتلك أهم تكنولوجيا بخصوص الفضاء، وأكثر جهة أطلقت رحلات إلى الفضاء.