الذاكرة غير قابلة للسيطرة، وهي مصدر إزعاج لا يتوقف: فإنك إما تعاني لاسترجاع أمر ما (فتظل تبحث عن مفاتيحك أو تحاول تذكر اسم أحد معارفك) أو تهرب منها متمنياً ألا تذكرك -للمرة السبعمائة- بشأن هذا الموقف المزري أو ذاك (حالات الوفاة، أحاديث محرجة، أو صدمات إلخ).
ولقد وضع فيلم Eternal Sunshine علاجاً طبياً للمأساة الأخيرة – ولكن هل هذا الأمر ممكن خارج الأفلام المستقلة الوهمية المحببة من إنتاج العقود الأولى من الألفية؟
الذاكرة غير قابلة للسيطرة
والسؤال هنا، هل يمكنك بالفعل تعمد نسيان الأشياء؟
تواصلنا (موقع Gizmodo الأمريكي) مع عدد من علماء النفس ذوي وجهات نظر مختلفة لنستكشف الأمر من موقع Giz Asks، وهذا خلاصة ما أفصحوا عنه:
"الذاكرة طيعة وقابلة للتعديل"
باحثة منتسبة وزميلة ما بعد الدكتوراه في علم الأعصاب بجامعة تكساس في أوستن، ودارسة في علم الأعصاب للنسيان العمد من بين أمور أخرى
قطعاً يمكنك. إن لدينا حصيلة عقود من البحوث المعملية التي تدعم هذا الرأي.
كان "النسيان العمد" في السياق العلمي يتضمن تشتيت الانتباه عن الذكرى أو التخلص منها حتى وقت قريب، ولكن البحث الذي نشرته حديثاً أشار إلى اكتشافٍ منافٍ للتوقعات البديهية: وهو أنه عندما تركز قليلاً على الذكرى، فإن احتمال نسيانك إياها يكون أكبر.
ولقد أخضعنا الناس في إحدى دراساتي إلى التصوير بالرنين المغنطيسي أثناء عرض صور متبوعة بتعليمات عليهم، مفادها تذكر الصورة السابقة أو نسيانها، فتمكنَّا من قراءة مدى قوة معالجتهم كل هذا مستخدمين أساليب تعلم الآلة لفك رموز أنماط نشاطهم الدماغي.
وكان اكتشافنا هو أنه عندما يزداد انشغال الناس بالمعلومة التي يحاولون نسيانها، فإنهم كانوا أنجح في نسيانها، في ظروف معينة. فإذا ما انشغلوا بالذكرى أكثر من اللازم، فإنهم يعززونها، أما إذا ما صرفوها تماماً، فلا يحدث لها أي تعديل، ولكن إذا ما انشغلوا بها قليلاً أو بقدر متوسط، كانت المعلومة تميل للنسيان، ولقد أثبتنا هذا الاكتشاف من خلال اختبارهم سلوكياً في وقت لاحق.
أعتقد أن الفائدة الحقيقية من هذا الاكتشاف هي أننا نؤثر فيما احتفاظنا بالذكريات أو نسيانه؛ فإن الذاكرة طيعة وقابلة للتعديل: حيث إننا نعدلها طوال الوقت.
"النسيان أداة قوية لتشكيل حياة المرء "
بروفيسور مساعد في علم النفس ومدير معمل Memory Dynamics Lab في جامعة بارد
بالرغم من صعوبة (إن لم يكن استحالة) الإقناع بنسيان ذكرى ما تماماً، فمن السهل للغاية نسيان شيء ما في اللحظة الراهنة، ونحن واثقون من هذا بناءً على تجاربنا اليومية.
ولكن الأبحاث الحديثة فتحت لنا نافذة جديدة وغير معتادة على كيفية سير عملية نسيان الأشياء في دماغنا، والتي كشفت عن أنه من شأن الجهود المبذولة في نسيان الذكريات غير المرغوبة أو كبحها أن يكون لها تبعات ذات أمد بعيد.
وبناءً على ذلك، فمن شأن النسيان أن يكون أداة قوية تُستخدم في تشكيل حياة المرء الداخلية ومنظوره الخارجي.
فلنقل مثلاً إني أرغب في نسيان موقف محرج، فيمكنني إذاً -كحل سريع- أن أحاول تغيير السياق، ومدى تداخل السياق المادي الحالي (موقع المرء) والسياق الذهني (أياً ما كان يدور في ذهن المرء في تلك اللحظة) مع سياقات الحدث الرئيسي تسهل على المرء تذكر ذاك الموقف.
ومن ثمَّ، إذا كان هدفنا هو تقليل خطر عودة الذكرى لأذهاننا، فالأفضل الابتعاد قدر الإمكان -مادياً وذهنياً- عن الحدث الأصلي، ربما من خلال الاستغراق في أحلام اليقظة بشأن الذهاب في إجازة بعيدة.
ولقد أكدت الأبحاث على النسيان الموجه. يمكننا كذلك محاولة صنع ارتباطات جديدة وأكثر إيجابية بالعوامل التي تذكر بالحدث الرئيسي، أو استرجاع أفكار بديلة بدلاً من الذكرى المحرجة.
"المعالجة لن تمحو الذكرى، ولكن تقلل ورودها"
بروفيسور مشارك في علم النفس ومدير معمل Cognition, Learning, and Memory Lab في جامعة نورث كارولينا في غرينزبورو
النسيان هو واحد من تلك الكلمات التي نظن أننا نفهمها مثل كلمة "العدالة"، ولكن ما إن نركز عليها لا نتفق على معنى محدد لها.
ولقد تصور أرسطو النسيان على أنه مسح الذكريات حرفياً، كأن تزيل طباعة ما من قالب شمع.
ولا أظن هذا التصور صحيحاً؛ فعندما أقول "لقد نسيت"، فهذا يعني أن الأمر ما زال مخزناً في دماغي، لكنه لم يحضر إلى عقلي، والذاكرة تعطي الأولوية لما يحضر للعقل.
وعلى كلٍّ، فإنك لا تريد لإشارة مثل "اسم صديقتي" أن تسترجع لك جميع أسماء صديقاتك السابقات في نفس اللحظة.
فلكي يكون الأمر نافعاً، فإننا بحاجة إلى الذكرى الأنسب، لا جميع الذكريات.
إن سيطرتنا على ما نفكر فيه يعني أن بمقدورنا نسيان الأمور بهذا الشكل، حتى وإن لم نتمكن من محوها بشكل دائم.
والذكريات الصادمة يُمكن نسيانها مثل أي ذكرى أخرى. إلا أننا إذا فكرنا كثيراً في صدمة ما، فإن أموراً كثيرة ترتبط بها.
وهذا هو ما يعنيه الناس بقولهم إن شيئاً ما "يهيج مشاعرهم"، فإنه مرتبط في أذهانهم بحدث سيئ في حياتهم، وهذا الشيء يعيد ذكراه.
يتطلب التغلب على الذكريات الصادمة العمل الجاد، لأنه يتعين عليك استحضار أمر آخر إلى عقلك أولاً كاستجابة لمهيجات المشاعر هذه.
وما زالت المعالجة لن تمحو الذكرى، ولكن من شأنها أن تفيد في تقليل ورودها على الذهن، أو أن تحد من الأذى الناجم عنها عندما تخطر على ذهنك مرة أخرى.
"عدم التفكير في شيء تعني أنه يأخذ قيمة معلوماتية خاصة"
بروفيسور في علم النفس ومدير معمل Affect Regulation and Cognition Lab في جامعة ييل
إننا ننسى كثيراً من المعلومات طوال الوقت بالفعل، لذا ليست المشكلة هنا، ولكن يبدو أنه ليس بيدنا اختيار ما نتذكره أو ننساه، وكثير من الأمور التي نريد نسيانها تحوي عواطف تخيفنا أو تحزننا، وهي تحديداً تبدو كأنها ملتصقة بأذهاننا.
وإن الذكريات تتلاشى بمرور الوقت -حتى الذكريات بالغة العاطفية منها- ولكن لا يتضح ما إذا كنا ننساها بالكامل، فقد نتوقف عن التفكير فيها (ونحاول ذلك متعمدين) ولكن إذا ما بذلنا جهداً في استرجاع ما حدث، فما زلنا نستطيع تذكره (حتى من دون التفاصيل)؛ لذا فقد ننسى التفاصيل، ولكن لا يرجح أننا ننسى أن الأمر حدث.
وبالتأكيد توجد بعض الأعمال التي تشير إلى أننا إذا ما بذلنا جهداً متعمداً للنسيان (أو عدم التفكير في شيء ما)، فإن هذا الشيء يعود لمطاردتنا.
كان هذا فحوى ما كشفت عنه تجارب "الدب القطبي" التي أجراها دانيال ويغنر، والذي اكتشف أنه إذا ما طلب أحدهم من الناس التفكير في أي شيء يريدونه طالما لم يكن "دباً قطبياً"، فستظل صورة الدب القطبي تظهر في رؤوسهم، وكلما حاولوا عدم التفكير فيه، ازداد ظهوره في أذهانهم.
يبدو بالفعل أن محاولة عدم التفكير في شيء ما أو محاولة نسيانه تعني أن هذا الشيء يأخذ قيمة معلوماتية خاصة تؤدي إلى صعوبة نسيانه.
يبدو بالفعل أن محاولة عدم التفكير في شيء ما أو محاولة نسيانه تعني أن هذا الشيء يأخذ قيمة معلوماتية خاصة تؤدي إلى صعوبة نسيانه.
"في جانب النسيان، تمنع الذاكرة الوصول للذكريات"
بروفيسور بحثي متميز في علم النفس المعرفي بجامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، وتركز أبحاثه على تعلم البشر والذاكرة من بين أمور أخرى
لا يمكننا النسيان طوعاً بمعنى المحو الصريح للذكريات، ولكن على جانب آخر واقعي للغاية، يمكننا النسيان طوعاً إذا ما كان الأمر تلقائياً.
فلنقل مثلاً إنك تقود السيارة وأنا أوجهك، فربما أقول لك أن تسلك مخرجاً معيناً، وبعد ذلك قد أخبرك أن تعدل وجهتك لأنه اتضح أن المخرج كان مغلقاً.
هذه في الواقع تعليمات لك بنسيان الأمر الأول الذي أخبرتك به. أو لنقل مثلاً إنك تبحث عن سيارتك بعد انتهائك من العمل، إذن سيتعين عليك تذكر أين تركتها هذا الصباح، وليس بالأمس.
أحياناً ما يُطلب من ضحايا إساءة معاملة الأطفال من أحد الوالدين ألا يفكروا في حوادث الإساءة، وربما يختارون بدلاً من ذلك التفكير في النزهة العائلية التي خرجوا فيها أو في رحلات التخييم أو أمور أخرى من ماضيهم، والتي ستحد من وتيرة استرجاع الأشياء الأخرى.
وليس الأمر محواً للذكريات: فطريقة عمل الذاكرة، في جانب النسيان تحديداً، هي أنها تمنع الوصول للذكريات، ولكن هذه الذكريات لا تُمحى.
وإذا ما عُرضت هذه الذكريات مرة أخرى، فعادة ما يتم التعرف عليها وإعادة حفظها.