بدأ العد التنازلي لإطلاق واحدة من أجرأ الحملات في العالم، لمعالجة قضية تلوث الهواء.
اعتباراً من يوم الإثنين 8 أبريل/نيسان 2019، سيواجه آلاف السائقين إلزامَهم بدفع رسوم جديدة لدخول وسط لندن، والهدف من ذلك هو ردع أكثر السيارات تسبباً في التلوث، سعياً للحدِّ من الأمراض والوفيات المبكرة.
وتأتي هذه المبادرة في الوقت الذي يقول فيه علماء إنَّ أضرار تلوث الهواء أخطر مما كان يُعتقد سابقاً.
وبحسب ما نُشر في موقع BBC البريطاني؛ صرَّح عمدة لندن، صادق خان، لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC) بأنَّ التهديد الذي يُشكِّله تلوث الهواء، والذي غالباً ما يكون غير مرئي بالعين المجردة، يُعَد "قضية طارئة من قضايا الصحة العامة".
وأضاف: "أحد الأشياء التي أزعجتني هو أننا لا نأخذ الأمر على محمل الجد، لأننا لا نستطيع رؤية جسيمات ثاني أكسيد النيتروجين التي تعتبر سُمَّاً".
لكن على مرِّ العقود القليلة الماضية، كشفت أبحاثٌ كيف أنَّ بعض الغازات مثل ثاني أكسيد النيتروجين والجسيمات الدقيقة، المعروفة باسم المواد الحبيبية، يمكن أن تصل إلى عمق الجسم، مُهدِّدةً بالتسبب في ضرر دائم.
نوبات الربو
يتجلَّى التأثير الأوضح لتلوث الهواء في عملية التنفُّس، فأي شخصٍ مصاب بالربو، على سبيل المثال، يكون أكثر عُرضةً للخطر، لأنَّ الهواء الملوث يمكن أن يسبب مشكلاتٍ مزمنة ويُسفر أيضاً عن الإصابة بنوبة.
إذ قال لي ألفي، وهو طفل في العاشرة من عمره: "اضطررت في إحدى الليالي إلى البقاء مستيقظاً، لأنَّ حالة صدري كانت سيئة للغاية للغاية بسبب كل الهواء الملوث. لم أستطع النوم، واضطرَّت أمي إلى البقاء مستيقظةً".
وأضاف: "كل هذا الهواء الملوث يمكن أن يؤذي رئتيك، بل يمكن كذلك أن يضر الدماغ، ويضر كل شيء في جسمك".
جديرٌ بالذكر أنَّ ألفي تلميذ في مدرسة هايمو الابتدائية في منطقة إلثام، بالقرب من شارع South Circular المزدحم في العاصمة البريطانية لندن، وهو واحد من 300 طفل في جميع أنحاء العاصمة يشاركون في مشروع بحثٍ فريد من نوعه.
ويتضمَّن المشروع ارتداءَ كل طفلٍ منهم حقيبة ظهر ترصد نسبة التلوث في الهواء، صمَّمتها شركة دايسون خصيصاً، وهي مزودة بأدواتٍ لقياس ثاني أكسيد النيتروجين وأصغر الجسيمات، التي تُسمَّى PM2.5.
وأحد دوافع هذا المشروع هو أنَّ التنفس في هواءٍ ملوث في سن مبكرة يمكن أن يُسفر عن آثارٍ تدوم مدى الحياة.
إذ أظهر بحثٌ أنَّ الأطفال الذين ينشأون في مناطق شديدة التلوث لديهم سعة رئوية أقل من نظرائهم في المناطق ذات الهواء الأنظف، بنسبة 5% في المتوسط، وفقاً لدراسة أجريت في لندن، وهو تأثيرٌ لا يمكن عكسه.
تحديات أكبر
يمكن كذلك أن يؤدي تلوث الهواء إلى تفاقم أمراض الجهاز التنفسي الأخرى، بما في ذلك انتفاخ الرئة والتهاب الشعب الهوائية المزمن، ويُعتَقَد أنَّه مرتبطٌ أيضاً بسرطان الرئة.
إذ ذكر بن باريت، الأستاذ بجامعة كينغز في لندن، الذي يدير بحث حقائب الظهر، أنَّ الأطفال المولودين في بيئة أكثر تلوثاً يواجهونٍ تحديات أكبر في الحياة.
وقال: "ليس بالضرورة أنَّهم يصابون بمرضٍ معين، لكنَّ أجسامهم تكون أقل قدرة على مواجهة تلك التحديات عند دخولهم مرحلة المراهقة ومرحلة الشيخوخة".
ويُمهَّد طريقٌ آخر لحدوث أضرارٍ حين تصل أصغر الجسيمات إلى أعماق الرئتين، أي إلى الحويصلات الهوائية، التي يُنقَل منها الأكسجين إلى مجرى الدم.
وقد ثبت أنَّ جسيمات PM2.5 صغيرةٌ بما يكفي للوصول إلى هذه المنطقة، فتدخل القلب وجهاز الدوران وتنتشر في جميع أنحاء الجسم.
وتشمل المخاطر كذلك إمكانية انسداد الشرايين، وزيادة خطر الإصابة بالسكتة الدماغية، إلى جانب أمراض القلب والنوبات القلبية.
وعلاوة على ذلك، ظهرت أدلة على أنَّ الجسيمات يمكن أن تصل إلى الدماغ، لذا يدرس الباحثون الآثار المحتملة على بعض الحالات المرضية مثل الخَرَف.
مجموعة كبيرة من الأدلة
أشارت دراسة صينية كبرى في العام الماضي 2018، إلى وجود صلةٍ بين التلوث وانخفاض الأداء الإدراكي، بينما أشارت دراسةٌ بريطانية نُشِرت الأسبوع الماضي، إلى وجود علاقةٍ بين التلوث والنوبات الذهانية لدى المراهقين.
ووفقاً للأستاذ جوناثان غريغ من جامعة كوين ماري في لندن، وهو شخصية بارزة في مجال أبحاث أضرار تلوث الهواء على الأطفال، فالأدلة على وجود أضرار واسعة النطاق تتزايد.
وقال غريغ: "نحن على يقينٍ تام من أنَّ تلوث الهواء يرتبط بأمراض الجهاز التنفسي مثل الربو، وأمراض القلب والأوعية الدموية، والنوبات القلبية والسكتات الدماغية، وفي غضون خمس سنوات، سنكون أكثر يقيناً بشأن حالاتٍ أخرى مثل الخَرَف والسمنة".
ويتمثل أحد مجالات البحث الجديدة في السعي لإيجاد تفسيرٍ لسبب ميل الأطفال في المناطق الأكثر تلوثاً إلى أن يولَدوا قبل الأوان المحدد، ويعانوا نقص الوزن، مقارنةً بأولئك الذين يولدون في أماكن أخرى.
وهناك دراسةٌ صغيرة، ما زالت جارية، تتفحَّص مشيمة الأجنَّة، ووجدت فيها نقاطاً سوداء تشبه جسيمات التلوث التي رُصِدَت في بعض خلايا الرئة.
وذكر نوريس ليو، الأستاذ في جامعة كوين ماري، وأحد الباحثين المشاركين في هذه الدراسة، أنَّ المشيمة من المفترض أن توفِّر بيئة معقمة، لذا كانت رؤية النقاط السوداء مفاجأة.
وقال: "نعرف شكل جسيمات التلوث حين تكون موجودة في الخلايا بأماكن أخرى من الجسم، لاسيما في الرئتين، والنقاط السوداء التي نراها في المشيمة ذات شكلٍ ولون مشابهين جداً لتلك النقاط التي تجعلنا نعتقد أنها يمكن أن تكون جسيمات تلوث".
وصحيحٌ أنَّ وجود هذه النقاط لا يُثبت وجود علاقةٍ بين التلوث والولادة المبكرة أو انخفاض وزن الأطفال عند ولادتهم، لكنَّه يشير إلى وجود آلية محتملة.
وقد وافقت حتى الآن 15 أمّاً شابة على التبرع بمشيماتهن للدراسة، وأخبرتني إحداهن، وتُدعى راشيل بوسويل، بجميع مخاوفها أثناء الحمل، ولم يكن تلوث الهواء من بينها.
وقالت: "هذا أمر مخيف للغاية. فالمرأة تحمي نفسها بالعديد من الطرق قدر استطاعتها حين تعرف أنَّها حامل، لكنَّ ذلك سيكون شيئاً لن تستطيع (الأمهات) حماية أنفسهن منه بسهولة، لاسيما أولئك اللواتي يعشن في لندن، وهذا شيء مخيف جداً".