"أرض البرتقال الحزين"، لقبٌ يدرك غسان كنفاني جيداً أنه يليق بمدينة يافا الفلسطينية التي اشتهرت بزراعة هذه الفاكهة الحمضية على مدار مئات السنوات، حتى صارت مرادفة لها ومتلاصقة بها؛ فتحوّل "برتقال يافا" إلى علامة تجارية فارقة في التاريخ الفلسطيني.
لكن، وبما أن إسرائيل تحاول محو التاريخ الفلسطيني، فقد استولت على "برتقال يافا" ضمن إطار مشروعها الدائم في سرقة التراث والتاريخ والحضارة. وقد استطاعت أن تجني الملايين نتيجة تصديره إلى الخارج، قبل أن يتراجع سوقه.
حاول الاحتلال أن يروّج لقطاع الزراعة عالمياً، ناسباً برتقال يافا إليه، ومنتزعاً الاسم من سياقه التاريخي الطويل. لكن، وكما ينقل غسان كنفاني -في كتابه "أرض البرتقال الحزين"- على لسان أحد الفلاحين الفلسطينيين، فإن "البرتقال يذبل إذا ما تغيّرت اليد التي تتعهده بالماء".
تاريخ برتقال يافا
ليس برتقال يافا مجرد فاكهة، بل هو رمز وطني فلسطيني، وقد زرعه الفلسطينيون على طول شواطئ البلاد منذ مئات السنين، وكان المنتج المفضّل لدى الأمريكيين والأوروبيين والأمريكيين، بسبب تميّزه عن ثمار البرتقال الأخرى.
ويُقال إن زراعة البرتقال في هذه الضواحي يمتد إلى 4 آلاف قبل الميلاد، حين كانت يافا مدينة كنعانية، لكن تختلف المراجع حول هذه النقطة.
يُضرَب ببرتقال يافا المثل؛ ورغم أنه يُزرع في سوريا ولبنان والعراق والأردن وتركيا، فإن الذي يُزرع في يافا يتميّز عن جميع أنواع البرتقال. فقشرته السميكة يمكنها أن تحفظ الثمرة لوقتٍ طويل، ما جعله مثالياً للتصدير، كما أنه كثير العصارة، وعصارته زاهية وطعمها سكري حلو.
خلال موسم البرتقال، الذي كان أشبه بمناسبة وطنية منذ القرن الـ19، كانت بيّارات البرتقال موزعة في كل مكان داخل مدينة يافا، وكان ميناء يافا يزخر بالسفن التي تحمل صناديق البرتقال إلى العالم.
يروي وثائقي "اغتيال المدينة" الذي يؤرخ مدينتَي يافا وحيفا قبل نكبة 1948، كيف كان شكل الحياة في المدينتين، وكيف أن 30 مليون برتقالة صُدّرت من ميناء يافا إلى مصر وتركيا وأوروبا بين عامَي 1882 و1885.
في الوثائقي الذي أخرجه رامز قرموز، وهو من ضمن سلسلة "فلسطين تحت المجهر"، يستذكر أحد العمال الفلسطينيين كيف كان يسير العمل في ميناء يافا خلال موسم البرتقال، وكيف كان ينزل إلى الميناء مع بقية العمال لوضع البرتقال في صناديق خشبية، قبل إرسالها إلى "البابور".
ويقول إن عمالاً "سوريين ومصريين وأردنيين ويمنيين ومغاربة عملوا في مشاغل الليمون بيافا، لأن طريقة العمل كانت يدوية، من الزراعة إلى الري وقطف المحصول الزراعي، وصولاً إلى توضيب البرتقال في صناديق وتحميلها على متن السفن.
بلغت صادرات يافا من البرتقال قبيل عام 1890 نحو 300 ألف صندوق، كانت تُرسل إلى مصر ولندن وليفربول والأستانة. وفي عام 1900، ارتفعت الصادرات إلى 650 ألف صندوق قبل أن تصل في أوجها إلى مليون و500 ألف صندوق.
لطالما كان برتقال يافا محرك عجلة الاقتصاد، وكاد يكون علم فلسطين بلونه، نظراً لتأثير قيمته الاقتصادية في السوق الفلسطينية. فقد كانت تُصدّر أطنان منه إلى دول الجوار وأوروبا وأمريكا التي أشاد قنصلها في القدس بجودة هذا البرتقال.
وفقاً لـ"المركز الفلسطيني للإعلام"، فإن البحث في الوثائق المنشورة حول البرتقال يعود بنا إلى عام 1886 حين أرسل القنصل الأمريكي في القدس هنري غيلمان تقريراً إلى مساعد وزير خارجيته ج. د. بورتر، أشاد فيه بالجودة العالية لبرتقال يافا و"بطرائق التطعيم المبدعة التي كان يستخدمها المزارع الفلسطيني".
واقترح غيلمان في تقريره أن يقتبس المزارعون الأمريكيون في فلوريدا أساليب زراعة البرتقال الفلسطينية. لكن، كيف انتقلت هذه الثروة من الفلسطينيين إلى الاحتلال الإسرائيلي؟
احتلال زراعي لبرتقال يافا
بدأت القصة منذ عام 1939 تقريباً، بعد الثورة الفلسطينية الكبرى، حين تزايد عدد الوكالات الصهيونية التي استحوذت على أراضي أصحاب الأملاك الفلسطينيين الغائبين، تمهيداً لزيادة العمال اليهود في فلسطين.
ورغم زيادة عددهم، لم يستطع اليهود أن يجاروا مستوى الإنتاج الفلسطيني في الزراعة، إلا في أواخر الانتداب البريطاني. وحتى مع ذلك، بقي الإنتاج الفلسطيني من الحمضيات متفوقاً على الإنتاج اليهودي، كماً ونوعاً.
بلغت المساحة المزروعة برتقالاً، حتى أواخر عام 1937، نحو 300 ألف دونم يملك العرب أكثر من نصفها في يافا، وكان من المنتظر أن تصل صادرات البرتقال إلى 25 مليون صندوق مع أواخر عام 1946، لكن الحرب العالمية الثانية قضت على مساحة واسعة من البساتين.
تغيّرت الأحوال بعد النكبة، حين استولى المهاجرون اليهود على برتقال يافا بشكلٍ غير قانوني بعدما قتلت الجماعات الصهيونية آلاف الفلسطينيين وهجّرت آلافاً غيرهم. ومع قيام ما يُعرف بـ"دولة إسرائيل"، اتخذت إسرائيل من البرتقال وسيلةً للترويج لإنتاجها.
يعتبر البرتقال اليافاوي اليوم في الأسواق الغربية، أكثر المنتجات الزراعية تمثيلاً للإنتاج الزراعي الإسرائيلي، بعدما نجح الاحتلال باستغلال شهرته التاريخية لصالح اقتصاده اليوم. وقد وصلت السرقة إلى حدّ الوقاحة عندما صار الاحتلال يضع ملصقاً صغيراً مكتوباً عليه "يافا" (Jaffa) على كل ليمونة يصدّرها.
جنت حكومة إسرائيل أرباحاً هائلة من مبيعات البرتقال وتصديره إلى العالم، لاسيما بعدما سيطرت تباعاً على مزيدٍ من الأراضي الفلسطينية. لكن وبسبب تدهور الأوضاع السياسية وقلة المياه، بدأ البرتقال يفقد قيمته تدريجياً، محلياً وفي الأسواق العالمية.
فانخفض تصدير الحمضيات في إسرائيل من مليون طن في السنة إلى 30 ألف طن، خصوصاً عندما دخلت أوروبا على خط المنافسة، لينتهي نسبياً زمن هذه الثمرة الذهبية التي كانت بمثابة ثروة وطنية لفلسطين.
أمّا برتقال يافا اليوم، فيُنتَج في إسبانيا، بعدما أجّر الاحتلال علامة "يافا" التجارية إلى سوق الحمضيات الإسبانية، حفاظاً على "الإرث" ليس إلا. فصار البرتقال الإسبانيّ يباع في الأسواق الأوروبية منتحلاً اسم مدينة يافا الفلسطينية.
في كتابه "أرض البرتقال الحزين"، وهو عبارة عن مجموعة قصصية صدرت عام 1962، يروي غسان كنفاني في قصة تحمل العنوان نفسه عن عائلة هُجّرت من يافا إلى عكا ثم لبنان، كتبها عام 1958 في الكويت.
في القصة، يحكي كنفاني كيف بكت نساء العائلة حين حملن البرتقال الذي كان يبيعه أحد الفلاحين على جانب الطريق، خلال الرحلة إلى لبنان، وكيف نزل الوالد من جانب السائق ومدّ يده فحمل برتقالة، وأخذ ينظر إليها بصمت ثم انفجر يبكي كطفلٍ يائس.
في أحد المقاطع، يكتب: "كانت أمك ما زالت تنظر إلى البرتقالة بصمت.. وكانت تلتمع في عيني أبيك كل أشجار البرتقال التي تركها لليهود.. كل أشجار البرتقال النظيف التي اشتراها شجرة شجرة، كلها كانت ترتسم في وجهه، وترتسم لمّاعة في دموعٍ لم يتمالكها أمام ضابط المخفر".
وبعد انهيار الوالد لاحقاً بسبب سوء الأوضاع، ينهي غسان كنفاني قصته بعبارة "حينما لامستْ نظراتي وجه أبيك يرتجف بغضبٍ ذبيح، رأيتُ في الوقت ذاته المسدس الأسود على الطاولة الواطئة، وإلى جواره برتقالة.. وكانت البرتقالة جافة يابسة".