منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، الذي شهد انتفاضة الأقصى، تشهد مدينة غزة حرباً ترتب عليها استشهاد أكثر من 10 آلاف شخص وإصابة أكثر من 30 ألفاً خلال شهر من الزمن، والتي صنَّفها البعض بأنها تشبه ابادة جماعية لسكان المدينة من قِبل جيش الاحتلال الإسرائيلي.
إلا أن هذه الانتفاضة لم تكن الأولى في تاريخ فلسطين المحتلة، إذ شهدت سنة 1929 أول انتفاضة ضد اليهود في مدينة القدس، والتي تسمى أيضاً بانتفاضة الشهداء الثلاثة أو ثورة البراق.
تعتبر ثورة البراق أول انتفاضة فلسطينية على محاولة تهويد القدس في عهد الانتداب البريطاني، إذ اندلعت اشتباكات واسعة النطاق بين العرب واليهود عند حائط البراق في 15 أغسطس/آب سنة 1929، فيما بلغت ذروتها في 23 أغسطس/آب من السنة نفسها، وترتب عليها سقوط عشرات من القتلى والجرحى.
الانتداب البريطاني وإنشاء وطن قومي لليهود
في بداية القرن الماضي، عمد الانتداب البريطاني إلى تغيير المعالم بالقدس، بهدف إقامة وطن لليهود في فلسطين، وأن تكون عاصمته القدس، وذلك استناداً إلى إعلان بلفور سنة 1917.
وبعد قرابة 10 سنوات من حكم بريطانيا، نظم الصهاينة مظاهرات كبيرة عند حائط البراق، مدّعين أنه مكان خاص باليهود وحدهم، الشيء الذي فجَّر أول ثورة للفلسطينيين على بريطانيا والحركة الصهيونية معاً في فلسطين.
قام بعد المصلين اليهود بوضع مقاعد وأدوات تتعلق بطقوسهم بالقرب من حائط البراق بمناسبة يوم الغفران، وذلك في 23 سبتمبر/أيلول 1928، شكَّل هذا التصرف إخلالاً بالوضع القائم في القدس، الذي يعود إلى العهد العثماني، ويأتي بعد محاولات صهيونية في السنوات السابقة لتوسيع حقوق اليهود في جوار الحائط، ولشراء أبنية لصيقة به من الأوقاف الإسلامية.
وفي الثالث من أكتوبر/تشرين الأول 1928، قدّم وفد من الوجهاء المسلمين مذكرة إلى المندوب السامي بالوكالة هاري شارلز لوك، يطالبون فيها بألا يتخطى المصلون اليهود الحقوق التي كانوا يتمتعون بها في العهد العثماني.
على إثرها بدأت حركة صهيونية في فلسطين وخارجها تدعو إلى تغيير الوضع. هذا السلوك أثار قلق القادة الفلسطينيين، الذين اعتبروا أن الهدف النهائي لهذه الحركة هو السيطرة على منطقة الحرم الشريف وبناء كنيس بالقرب من حائط البراق.
في نوفمبر 1928، عُقد مؤتمر خاص في القدس، برئاسة محمد أمين الحسيني، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، وشارك فيه أكثر من 800 شخصية إسلامية من فلسطين وسوريا ولبنان وشرق الأردن.
في هذا السياق، دعا المؤتمر المسلمين في جميع أنحاء العالم إلى إرسال عرائض إلى بريطانيا وعصبة الأمم للمطالبة بحماية حائط البراق والأماكن المقدسة في القدس. وقد أسفر المؤتمر أيضاً عن تشكيل جمعية لحماية المسجد الأقصى والأماكن المقدسة.
خلال نفس الشهر أصدر الكولونيل ليوبولد أمري، وزير الدولة لشؤون المستعمرات، ما يُعرف بـ "الكتاب الأبيض"، الذي أكد أن تصرّف اليهود في حائط البراق في سبتمبر كان انتهاكاً للوضع الذي كان قائماً منذ الحكم العثماني.
وأعلنت السلطات البريطانية التزامها بالحفاظ على هذا الوضع، وفي ديسمبر 1928، وجَّه رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، الحاج أمين الحسيني، رسالة إلى حاكم مقاطعة القدس تطالب بتنفيذ ما ورد في الكتاب الأبيض والحفاظ على الحالة الراهنة التي سادت في عهد الأتراك.
ثورة البراق والدعم البريطاني لليهود
اندلعت ثورة البراق بعدما نظَّم اليهود مظاهرة عند حائط البراق في 14 أغسطس/آب 1929 بمناسبة ما يسمونه "تدمير هيكل سليمان"، وفي اليوم الموالي أتبعوها بمظاهرة في شوارع القدس، وصولاً إلى حائط البراق.
فور وصولهم إليه بدأوا يرددون النشيد القومي الصهيوني، كما علمت الشرطة البريطانية بالمظاهرة سلفاً، وأرسلت قوات كبيرة لمرافقة المتظاهرين اليهود.
وفي 16 أغسطس/آب 1929 الذي صادف ذكرى المولد النبوي الشريف، توافد عدد من المسلمين للدفاع عن حائط البراق، الذي كان ينوي اليهود الاستيلاء عليه، فوقعت صدامات عنيفة بين الجانبين عمّت معظم فلسطين.
شهدت الثورة صدامات بين الفلسطينيين من جهة واليهود وقوات الانتداب من جهة أخرى في الخليل وصفد والقدس ويافا ومدن فلسطينية أخرى، أسفرت هذه المواجهات عن مقتل 133 يهودياً وجرح 339 آخرين، في حين استشهد 116 فلسطينياً وعربياً وجُرح 232 آخرون.
بعد أن تمكنت بريطانيا من السيطرة على الموقف بقسوة، قدمت للمحاكمة ما يزيد على ألف من العرب والفلسطينيين وحُكم على 27 منهم بالإعدام، بينهم يهودي واحد كان شرطياً دخل على أسرة عربية في يافا مكونة من 7 أشخاص فقتلهم جميعاً.
خففت سلطة الانتداب الأحكام إلى السجن المؤبد بحق 23 من الفلسطينيين، وأيّدت حكم الإعدام بحق 3 بعد اتهامهم بقتل يهود، وهو ما تسبب في إطلاق الفلسطينيين عليها ثورة الشهداء الثلاثة.
نفذ حكم الإعدام في 17 يونيو/حزيران 1930 في سجن مدينة عكا أو ما يعرف بسجن القلعة في حق كل من:
- فؤاد حسن حجازي
- محمد خليل جمجوم
- عطا أحمد الزير
وفي محاولة من بريطانيا لمنع تكرار ثورة أخرى على غرار ثورة البراق، أصدرت سلطة الانتداب في 25 أكتوبر/تشرين الأول 1929 مرسوماً أطلقت عليه "قانون العقوبات".
توابع ثورة البراق في فلسطين
بعد أحداث ثورة البراق، قام مجلس عصبة الأمم في 14 يناير/كانون الثاني 1930 بتشكيل لجنة عاجلة اقترحتها الحكومة البريطانية، وأسندت لها مهمة البت في "مسألة حقوق ومطالب المسلمين واليهود في حائط البراق". في الأول من ديسمبر/كانون الأول 1930، خلصت هذه اللجنة إلى أن ملكية حائط البراق تعود بشكل حصري إلى المسلمين، وأن لهم الحق الكامل فيه. كما أكدت أن الحائط الغربي هو جزء لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف، التي تعتبر ممتلكات وقفية.
وأضافت اللجنة أن لليهود الحق في الوصول إلى الحائط الغربي لأداء الصلوات في جميع الأوقات، مع مراعاة الالتزام بعدد من الشروط. بالواقع، اعترفت اللجنة بالوضع القائم الذي كان معمولاً به في عهد العثمانيين.
وفي 12 مارس/آذار 1930، أصدرت "لجنة شو"، وهي لجنة تحقيق بريطانية برئاسة "والتر شو"، تقريرها بشأن الأحداث المتعلقة بحائط البراق.
في هذا التقرير، قامت اللجنة بتحليل الوضع واستنتاجاتها تشير إلى أن الهجرة الصهيونية والأنشطة المتعلقة بشراء الأراضي كانت السبب الرئيسي للاضطرابات. فيما شددت على "القلق المزدوج للعرب" من فقدان وسائل معيشتهم واحتمال سيطرة اليهود سياسياً في المستقبل نتيجة للهجرة اليهودية واقتناء الأراضي.
في الوقت نفسه، أعربت اللجنة "شو" عن تأييدها لصدور مرسوم قانون العقوبات في أكتوبر/تشرين الأول 1929، وهو قرار أصدر بعد شهرين فقط من بداية ثورة البراق.
وفي 2 من مايو/أيار 1930، قام وزير المستعمرات البريطاني، اللورد باسفيلد، بإرسال "السير جون هوب سمبسون" إلى فلسطين للتشاور مع المندوب السامي، واستعراض الوضع الراهن فيما يتعلق بمسائل الهجرة والاستيطان وتطوير الأراضي.
باسفيلد هدف من هذه الجهود إلى تهدئة احتجاجات اليهود وأنصارهم الذين أبدوا اعتراضهم على نتائج تقرير "لجنة شو"، وطالبوا بتشكيل لجنة تحقيق للنظر في مسألة الأراضي والهجرة.