لم يكن فيلم "الطنطورة"، الذي يوثّق مجزرة القرية الفلسطينية عام 1948 على يد الاحتلال الإسرائيلي، مفاجئاً للفلسطينيين وسكان المنطقة العربية عموماً، لكن يمكن القول إن أهميته تكمُن في أنه أكد الرواية الفلسطينية، التي يحاول الاحتلال طمسها.
وبمجرد صدوره، في يناير/كانون الثاني 2023، واجه فيلم الطنطورة الوثائقي ردّ فعلٍ عنيفاً على نطاقٍ إسرائيلي واسع. وهذا طبيعي عندما تعرف أن مخرجه إسرائيلي، وأن فكرة الفيلم مبنيّة على بحثٍ أكاديمي قدّمه إسرائيلي آخر.
وهنا تأتي فصول قضية مثيرة للاهتمام، بطلها طالبٌ إسرائيلي تعرّض لضغوطٍ كثيرة لأنه أراد تأريخ أحداث مجزرة. فاعتذر، وشُطبت شهادته، قبل أن تتحوّل رسالة الماجستير التي قدّمها إلى فيلم الطنطورة الوثائقي.
ما يجب معرفته عن فيلم الطنطورة
عام 1998، قدّم طالب إسرائيلي يُدعى تيدي كاتس رسالة الماجستير في دائرة تاريخ الشرق الأوسط بجامعة حيفا، بعنوان "تهجير العرب من القرى المحاذية لجبل الكرمل"؛ وقد وثقت المجزرة التي قام بها الجنود الإسرائيليون في أيار/مايو 1948 في الطنطورة.
وكان كاتس أعدّ رسالة الماجستير باستخدام ما يُعرف بـ"التأريخ الشفوي"، من خلال جمع شهادات ناجين فلسطينيين من سكان الطنطورة وجنود إسرائيليين من فرقة الجيش التابع لـ"الهاغانا"، والذين شاركوا أو شهدوا على المجزرة التي وقعت في القرية.
كان تيدي كاتس طالباً في صفوف إيلان بابيه، المؤرخ والبروفسور الإسرائيلي الذي قدّم أبحاثاً علمية عدة حول التطهير العرقي في فلسطين. وبعد نشر رسالة الماجستير، تراجع الجنود الذين قابلهم كاتس عن شهاداتهم، وقاموا بمقاضاته، متهمينه بتزوير المعلومات.
وبعد ضغوطٍ كبيرة، اعتذر تيدي كاتس وسارعت جامعة حيفا إلى شطب رسالة الماجستير التي حاز فيها درجة "امتياز" من مرشده، المؤرخ الفلسطيني الراحل البروفيسور قيس فرو.
تراجع كاتس عن اعتذاره لاحقاً، وحاول استئناف القضية لدى المحكمة، التي ردّت الدعوى. وفي العام 2000، جرّدته جامعة حيفا من شهادة الماجستير. لكن وفي سابقة من نوعها، نوقشت مجزرة الطنطورة في محاكم الاحتلال.
في افتتاحيتها، دعت صحيفة Haaretz إلى إعادة الاعتبار للباحث تيدي كارتس، وقالت إن تجدد الاهتمام بقضية مجزرة الطنطورة يُلزم جامعة حيفا بفحصٍ جديد لرسالة الماجستير التي قدّمها عام 1998، بعدما ألغتها بدعوى أنها تشوّه التاريخ.
وقالت الصحيفة الإسرائيلية -التي سبق أن هاجمت كاتس وفيلم الطنطورة- إنه بفضل رسالة الماجستير "بقيَ النقاش المهم في هذه القضية البشعة حياً"، وإنه لا يمكن كتابة رسالة ماجستير مماثلة "تنجح في تسليط الضوء على حدثٍ تاريخي مهم" كل يوم.
فيلم الطنطورة الوثائقي من إخراج ألون شفارتز، وقد عُرض في رام الله نهاية العام 2023 بحضور مسؤولين فلسطينيين وسفراء دول مختلفة، إضافة إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي أشاد فيه معتبراً أنه يؤكد الرواية الفلسطينية بشأن المجازر التي أنكرتها سلطات الاحتلال لسنوات طويلة.
يقول مخرج الفيلم ألون شفارتز إنه لا توجد رواية إسرائيلية رسمية لمجزرة الطنطورة، وإن الأشخاص الذين يمثلون الجانب الرسمي يقولون إنه قُتل عدد صغير من الأشخاص أثناء "المعركة".
وفي حديثٍ إلى قناة BBC، ضمن برنامج "بي بي سي تريندينغ"، يتابع مؤكداً: "بينما نقول نحن إن عدد الضحايا كان كبيراً، عندما حوصر السكان وقُتل الكثير منهم، وتم احتلال القرية".
وأضاف شفارتز قائلاً: "النكبة في حدّ ذاتها تُعتبر من التابوهات في إسرائيل، وهذا الفيلم الوثائقي يُظهر رواية الجنود الإسرائيليين، وهو أول وثائقي يُنتَج في إسرائيل ويُعرض في الأراضي الفلسطينية".
وحول الجدل الذي أثاره الفيلم في الأوساط الإسرائيلية، يقول شفارتز: "لا أعتقد أنه يغضب الإسرائيليين، لأن هناك من يريد التحدث عن الموضوع".
الجدل الذي أثاره فيلم الطنطورة ليس نابعاً فقط من شهادات الجنود الإسرائيليين، التي كانت صادمة بسبب تفاصيلها عن كيفية قتل مدنيين فلسطينيين، بل لأنها رُويت بطريقةٍ ساخرة أحياناً؛ كان بعض جنود الاحتلال، أو شهود العيان، يضحكون عند سرد التفاصيل.
مجزرة الطنطورة
جاءت مجزرة الطنطورة بعد شهرٍ على مذبحة دير ياسين، لكنها تركت أثراً بالغاً لدى الفلسطينيين ليس بسبب عدد ضحاياها، بل لأنها ارتُكبت على يد جيشٍ إسرائيلي بعد أسبوعٍ واحد فقط من قيام ما يُعرف بـ"دولة إسرائيل".
تقع قرية الطنطورة الفلسطينية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، بالقرب من حيفا، ويُقال إن عدد سكانها بلغ نحو 1500 في العام 1945.
تذرع الاحتلال بأنها تمثل تهديداً لهم، واتهموا سكان القرية بنيّة تحويلها إلى مرفأ أساسي، يصل إليه السلاح لكل الفلسطينيين. وفي ليل 22 مايو/أيار 1948، نفذ لواء ألكسندروني -التابع لجيش الاحتلال- هجوماً بحرياً على القرية، ارتكبوا خلاله الفظائع.
استُهدفت الطنطورة أولاً عبر قصفها من البحر، قبل تنفيذ عملية مداهمة على يد جنود الكتيبة 33 من لواء ألكسندروني من جهة الشرق، في الليلة نفسها. وتواصل الهجوم حتى اليوم التالي حتى تمكنوا من احتلالها، وبدأت المذبحة.
ارتكب جنود الاحتلال جرائم بشعة بحق أهالي الطنطورة في ذلك اليوم، لا سيما بحق رجالها. فقد أُطلقت النيران عليهم في الشوارع، وتمت ملاحقتهم إلى داخل بيوتهم، وتجميعهم إلى مجموعات قبل إطلاق النار عليهم.
يُحكى عن ممارسات شنيعة جداً، رَوى الجنود بعضاً منها في فيلم الطنطورة. أُجبر المئات على حفر خنادق تحت الأرض، لم يعلموا أنها كانت في واقع الأمر قبوراً لهم، قبل إطلاق النار عليهم ودفنهم في مقابر جماعية.
لم تتوقف عمليات القتل وسفك الدماء، التي قام بها جنود الاحتلال، إلا بعد وصول بعض سكان قرية زخرون يعقوب المجاورة. ووفقاً لصحيفة The Guardian البريطانية، يُعتقد أن مكان المقابر الجماعية موجود اليوم تحت موقفٍ للسيارات، قبالة شاطئ دور.
أكثر من 250 جثة تمّ اكتشافها خلال الأيام التي تلت مجزرة الطنطورة، وقد تمّ طرد النساء والأطفال بعد تفتيشهم ومصادرة كل ما يملكون. أما الرجال والفتيان، فقد أُسروا في معتقلات، ثم تصفية العديد منهم قبل أن يتمكن الصليب الأحمر الدولي من تسجيلهم.